في الهند مدينة تزدهي بمساجدها البديعة، ويتوسطها تاج المساجد كما لو كان درة عقدها النضيد...إنها مدينة تدعى "بهوبال". وتقع هذه المدينة في وسط الهند وهي عاصمة ولاية مهدية براديش، التي تعد إحدى كبريات الولايات الهندية. وقد شهدت هذه المدينة التي يسودها المسلمون إحدى أسوأ مآسي الغازات المسمومة التي عرفها العالم قبل خمسة وعشرين عاماً. ولا تزال ذكريات هذه المأساة الغازية تقض مضاجع الهند إلى يومنا هذا. لقد وقعت هذه المأساة في شهر ديسمبر من عام 1984، إثر تسرب غاز سام من مصنع للأسمدة تابع لشركة "يونيون كاربايد" الأميركية. وبسبب ذلك التسرب تعرض 500 ألف من رجال ونساء وأطفال تلك المدينة القديمة لنحو 50 طناً من غاز ميثيل الآيزوسيانيت وغيره من الغازات السامة القاتلة. وكان قد أعلن في يوم الحادث نفسه عن مصرع 3000 شخص جراء تسرب الغاز، بينما بلغ عدد المتأثرين من تعرضهم للغاز 30 ألفاً. غير أنه تكشف الآن أن عدد القتلى يتجاوز خمسة أمثال الرقم الذي أعلنت عنه الحكومة في ذلك الوقت. فقد ذهبت التقديرات إلى وفاة 15 ألف شخص في الساعات المبكرة من صباح اليوم الذي وقعت فيه الحادثة، بينما لقي حتفهم نحو 10 آلاف شخص آخرين خلال السنوات اللاحقة، تحت تأثير التعقيدات الصحية الناجمة عن عدم تنظيف موقع تسرب الغاز، وتلوث المياه الجوفية. يضاف إلى ذلك العدد مئات الآلاف الذين يعانون من الشلل إلى اليوم، إلى جانب معاناتهم من تأثيرات ما بعد حادث تسرب الغاز السام. "وارن أندرسون"، رئيس شركة "يونيون كاربايد"، الذي وصل إلى الهند بعد وقت قصير من وقوع كارثة تسرب الغاز السام، كان قد اعتقل لحظة وصوله إلى المطار. غير أن الشرطة أطلقت سراحه فوراً بالكفالة. لكن "أندرسون" تخطى شروط الكفالة خلال ست ساعات فحسب، بهروبه خلسة إلى خارج البلاد. ولا أحد يدري إلى اليوم من الذي سمح لأندرسون بمغادرة الهند، على رغم مسؤوليته عن أسوأ كارثة كيميائية في التاريخ. وقد ظل أمر الاعتقال الصادر بحقه بسبب انتهاكه لشرط الكفالة عالقاً دون أن ينفذ. من جانبها تقدمت الحكومة الهندية بدعوى قضائية ضد الشركة الأميركية وإدارتها، متهمة إياهما بالإهمال. أما ناشطو "الجمعية المدنية"والخبراء القانونيون، فسارعوا من جانبهم لاتهام الحكومة بالتستر على "أندرسون" وشركته، وتخفيف الاتهامات الموجهة إليهما. وطالب هؤلاء الحكومة برفع دعاوى جنائية ضد الشركة ومالكها وإدارتها، وتحميل هذه الأطراف الثلاثة المسؤولية عن قتل الآلاف من المدنيين الأبرياء، الذين لقي معظمهم حتفه أثناء النوم. وبعد مضي 25 عاماً، أثيرت خلال الأسبوع الماضي تلك المأساة مجدداً، بعد أن أدانت المحكمة الهندية ثمانية من موظفي شركة "يونيون كاربايد" السابقين، وجميعهم من الهنود، بتهمة القتل بالإهمال، وحكمت عليهم بالسجن لمدة أقصاها عامين. وبالنظر إلى فداحة المأساة والحكم المخفف الصادر بحق المتهمين، مع عدم اتخاذ أي إجراء قضائي يطالب أميركا بتسليم "أندرسون" للهند، كي يواجه الاتهامات المثارة ضده، إضافة إلى المدة الزمنية التي استغرقها إعلان المحكمة عن أحكامها المذكورة، فقد صدمت الهند بأسرها لما حدث، وثارت موجة غضب عام. وبالطبع فقد استيقظت ذكريات تلك المأساة الكيمياوية المروعة. استجابة منها لصحوة هذه المأساة، سارعت الحكومة لاحتواء الأمر بتشكيلها مجموعة وزارية تكون مهمتها إعادة النظر في الأحكام القضائية الصادرة، وغيرها من المسائل المتصلة بتلك المأساة اللاإنسانية. ومنح رئيس الوزراء مانموهان سنج هذه المجموعة مدة عشرة أيام لرفع تقريرها عما كلفت به. ولكن تظل كبرى الأسئلة ذات الصلة بهذه المسألة: المسؤولية والمساءلة. فشركة "يونيون كاربايد" الأميركية هي اليوم فرع تابع لشركة "داو كيميكال". والحوار الدائر الآن في الهند هو ما إذا كانت تستثنى شركة "داو كميكال" من مهمة تنظيف 1.1 مليون طن من النفايات السامة من موقع التسمم الغازي وتلوث المياه الجوفية، أم تلزم بدفع تكلفة التنظيف. يذكر أن شركة "يونيون كاربايد" كانت قد دفعت مبلغاً هزيلاً بلغت جملته 470 مليون دولار قبل عشرين عاماً، عبارة عن تعويض منها للحكومة الهندية على الكارثة برمتها. وكانت لمأساة "باهوبال" الغازية هذه تداعياتها وتأثيراتها على قانون المسؤولية النووية، الذي تجري مناقشته الآن إثر توقيع الهند على صفقة شراكة نووية مع الولايات المتحدة الأميركية. وتسمح هذه الصفقة للشركات الهندية بالاستثمار في القطاع النووي الهندي. ويواجه هذا القانون عراكاً سياسياً محتدماً بشأن مسألة تحديد مسؤولية ومساءلة الموردين الأجانب وتسريع إجراءات تعويض الضحايا في حال وقوع أي حادث نووي. وقد أعادت الأحكام المخففة التي أصدرتها المحكمة الهندية بحق المتهمين في كارثة تسرب الغاز مسألة حماية الضحايا مجدداً إلى دائرة الاهتمام. وتمارس الضغوط على الحكومة من قبل ناشطي المجتمع المدني والصحافة، كي لا تتهاون إزاء مثل هذه الكوارث، وأن تضمن حماية حقوق الضحايا بما ينبغي في التشريع القانوني. وتجدر الإشارة إلى أن ضحايا كارثة "باهوبال" قد عانوا الأمرين خلال ما يزيد على عقدين من الزمان، ولا تزال معاناتهم تستمر. ففي هذه المدينة لا يزال هناك عدد كبير من الأطفال يعانون من تشوهات الولادة وأنواع مختلفة من الأمراض مثل السرطان وصعوبات التنفس والعمى وغيرها من الأمراض المزمنة. وقد حان الوقت لمحاسبة "أندرسون" وتحميله وزر ما فعل. والحق أن جريمته هذه تفوق كثيراً ما ارتكبته يدا الإرهابي أمير أجمل كساب، وغيره من مقاتلي "لشكر طيبة" الذين استهدفوا بعملياتهم مدينة مومباي. هذا وتربط بين الهند والولايات المتحدة معاهدة لتسليم وتبادل المجرمين. ولا مناص من إعادة "أندرسون" إلى الهند لمواجهة الإجراءات القضائية ذات الصلة بجرائم القتل الجماعي التي ارتكبها. وليس متوقعاً لهذه الضغوط التي تواجهها الحكومة أن تتراجع، أو يهدأ بال للمواطنين طالما بقيت ذكريات المأساة حية يقظة في ذاكرتهم الجماعية. وهذا ما يلزم الحكومة بتعقب الجناة حتى ينال كل واحد منهم جزاء ما ارتكب بحق المواطنين، وحتى ترد المظالم لأصحابها وتعود الحقوق إلى أهلها. فليس ارتكاب جريمة القتل الجماعي بحق المدنيين من المسائل التي يمكن التساهل فيها أو غض الطرف عنها.