قد ينجذب البعض إلى عقد مقارنة بين الانتقادات التي وجهها الجنرال ستانلي ماكريستال إلى مسؤولين في إدارة أوباما وبين تحدي الجنرال دوجلاس ماكآرثر للرئيس ترومان خلال الحرب الكورية، لكن لابد من التنبيه هنا أن أموراً كثيرة تغيرت على مدى الستين عاماً الماضية، فمع أن ماكآرثر تحدى فعلا ترومان، إلا أن سلك الضباط في تلك الفترة كان ملتزماً في مجمله بمبادئ السيطرة المدنية على الجانب العسكري، وهو الأمر الذي يختلف اليوم مع تصرف ماكريستال الذي هو أحد مؤشرات تسييس القيادة العسكرية. فخلال مطلع القرن العشرين كانت قواعد عدم الانتماء الحزبي هي المعايير المهنية السائدة في أوساط الجيش الأميركي، بل إن الغالبية الساحقة من ضباطه كانت ترفض التصويت في الانتخابات لأن ذلك يتطلب منهم اتخاذ موقف سياسي معين والتعامل مع أنفسهم كأناس متحزبين عندما يشاركون في الاقتراع السري لاختيار مرشحهم. وقد استمر هذا الوضع إلى غاية عام 1976 عندما عرف 55 في المئة من ضباط الرتب العالية (ابتداء من رتبة رائد فما فوق) أنفسهم كمستقلين وغير منتمين للأحزاب السياسية. غير أن التحول الأبرز سيطرأ مع حرب فيتنام التي غيرت الكثير من القناعات، وبخاصة بعد بروز التحدي "الديمقراطي" للإجماع الوطني حول الحرب الباردة وتعالي الشكوك من جدوى التصدي للاتحاد السوفييتي وظهور السياسات الحزبية التي بدأت تهدد المصالح العسكرية، وهو ما حدا بالعديد من الضباط إلى التخلي حينها عن موقفهم المنفصل عن السياسة. وبصعود ريجان إلى حلبة المشهد السياسي في الولايات المتحدة قفزت نسبة كبار الضباط الذين ينتمون إلى الحزب "الجمهوري" من 33 في المئة خلال عام 1976 إلى 53 في المئة في عام 1984، وبحلول 1996 كانت تلك النسبة قد وصلت في أوساط ضباط الجيش الأميركي إلى 67 في المئة فيما انحصرت نسبة "الديمقراطيين" في 7 في المئة فقط، وهو تيار عام ظل مستمراً حتى عام 2004. وإذا ألقينا نظرة على ما يُدرس في الأكاديميات العسكرية فسنجد أن من المرجح استمرار التسييس داخل الجيش الأميركي وتصاعد وتيرته بشكل أكبر، حيث أوضح استطلاع للرأي أجري في أكاديمية "ويست بوينت" قبيل انتخابات عام 2004 أن 61 في المئة من الطلبة الضباط الذين استجوبوا يصنفون أنفسهم من "الجمهوريين"، فيما 12 في المئة منهم "ديمقراطيون" والباقي من المستقلين. وأعرب نصف الطلبة الضباط أنهم "يخضعون لضغوط للاصطفاف إلى حزب سياسي بعينه"، وفيما سعى الطلبة الذين اعتبروا أنفسهم "جمهوريين" إلى التقليل من شأن هذه الضغوط أكد ثلثا الطلبة من غير "الجمهوريين" وجود تلك الضغوط، كما أكدتها أيضاً الأقلية التي صنفت نفسها مع الحزب "الديمقراطي". ولاشك أن هذا التسييس المتزايد للضباط يؤثر على أساسيات السيطرة المدنية على الجانب العسكري حتى في ظل غياب الوعي لدى سلك الضباط بالمبادئ الأساسية لهذه السيطرة التي ينص عليها الدستور. فحسب الدراسات التي أجريت خلال السنوات الماضية هناك "أغلبية من الضباط في الخدمة يعتقدون أنه يتعين على كبار ضباط الجيش الإصرار على أن يقبل المسؤولون المدنيون وجهة نظرهم"، هذا في الوقت الذي يعتقد فيه 65 في المئة من كبار الضباط أنه لا بأس من أن يجهر العسكريون بوجهات نظرهم على الملأ، لاسيما عندما يرون "أن وجهات نظرهم تلك تخدم المصالح الأميركية"، وفي المقابل فقط 29 في المئة يعتقدون أن كبار المدنين بدلا من نظرائهم العسكريين "لهم الكلمة الفصل في طبيعة القوة العسكرية التي يتعين استخدامها". وبالنظر إلى هذا الواقع فإنه لا يكفي إقالة أوباما للجنرال ماكريستال، بل عليه اتخاذ خطوات ملموسة تدفع سلك الضباط إلى إعادة النظر في القواعد الدستورية، وهو أمر يغيب تماماً عن مناهج التدريس في الأكاديميات العسكرية والكليات الحربية في الولايات المتحدة. كما أن تلك المؤسسات لا تُخضع الطلبة لتدريبات تحاكي ما يتعين أن تكون عليه العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أرض الواقع. وبالطبع يتعين إصلاح هذه العلاقة من خلال وضع منهج ثابت للأخلاقيات العسكرية على غرار الحال بالنسبة لرجال السلك القضائي، بحيث يتم التركيز فيه على المبادئ الدستورية للحكومة المدنية وربط ذلك بطبيعة العلاقة العسكرية مع المسؤولين المدنيين في سياق واقعي، على ألا تقتصر هذه المبادئ العامة للأخلاقيات العسكرية على الضباط، بل توضح أيضاً حدود العلاقة المدنية للمسؤولين الحكوميين وطريقة التعامل مع العسكريين سواء في "البنتاجون" أو البيت الأبيض أو الكونجرس. ولابد في هذا الإطار من تضافر جهود المدنيين كما العسكريين لتطوير مبادئ عامة تحكم السلوك المعتمد بين الطرفين يقوم على الواقعية وليس على الاحتمالات الافتراضية، وتبقى الخطوة الأفضل في هذا الاتجاه تشكيل لجنة رئاسية حول العلاقات العسكرية المدنية لأن من شأن إظهار الاهتمام الرئاسي بهذا الموضوع أن يشجع على استكمال المشروع ويطعمه بمسؤولين أكفاء يشرفون على ضبط تلك العلاقة وتصفيتها من الشوائب. وسيكون هذا المشروع بمثابة الرد المباشر على تصاعد وتيرة التسييس في صفوف الجيش، بحيث من المتوقع أن ينتهي المشروع بأكثر من توفير خطوط عريضة لضبط سلوك العسكريين، بل يتوقع أيضاً أن يمتد تأثيره إلى إعادة تثبيت مسألة السيطرة المدنية على الحياة العسكرية. ------ بروس أكرمان أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة "ييل" الأميركية ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"