تايلاند ما بعد الأزمة الأخيرة التي استمرت قرابة ثلاثة أشهر، تقف على حافة السياسة لتطل على الاقتصاد الذي عانى ولا زال يعاني من تدخل الساسة في أقوات الناس واستغلالها لصالحهم. فقادة الأحزاب المختلفة يتلاعبون بأعصاب زبائنهم (الجماهير) من أجل الوصول إلى الحكم ومن ثم التمكن من ممارسة الفساد المقنن باسم المصلحة العامة في العلن، حتى يتم استكشاف الأمر متأخراً بأن المصالح الخاصة قد ابتلعت المصالح العامة ساعة اعتلاء السلطة. دولة مثل تايلاند عمدة اقتصادها السياحة وليست السياسة، وقد ضربت للمرة الثانية خلال سنتين مضتا في الصميم، وقد تعافت منذ أكثر من عقد عندما ضربت الأزمة المالية آسيا في عام 1998 في مقتل، بحيث غدت النمور الخمسة في تلك الآونة، مجسماً من ورق تهاوى في وقت كان يراد لها فيه أن تكون البديل الآخر للاقتصادين الأميركي والأوروبي. ترى بعدما أخذت الأزمة الراهنة من أرواح الناس ما أخذت، ومن أموال البعض ما دمرت، ومن وظائف المحتاجين إلى "البات" قبل الدولار ما فعلت، ترى كيف تقرأ أوضاع الناس بعد أن تدخلت الحكومة بكل ما تملك من قوة لدحر أصحاب القمصان الحمراء بالدبابات والقناصين لتخفت أصوات المعارضة التي لم تمت في ظل النظام الديمقراطي السائد. لقد توقف تدفق موجات السياحة فجأة إلى تلك المدينة الساحرة بسلامها الإنساني ورجعت البقية الباقية إلى ديارها إلا من اضطر للبقاء لفرص العلاج الطارئ. تايلاند عرفت منذ عقود بدولة الخدمات المفتوحة ولم تكن يوماً منطقة مشتعلة بالأزمات السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية، لأن مكوناتها الداخلية محصنة بالأفكار المقبلة على جميع الجنسيات والأديان والأعراق، وقد أصبح "الغريب" أقرب إلى القدسية وتدربت الناس على احترام الآخر كجزء من السجية الأخلاقية لهذا الشعب. ويمكن ملاحظة آثار تلك الأزمة التي خمدت عن قرب إذا ما بحثنا عن تفريغ الخدمات من أداء وظائفها، لذا قام بعض العاملين بطريقة الدخل الذي يعتمد على "الإكرامية" أو بالنسبة المئوية من إجمالي المدخول اليومي أو الشهري، بأخذ إجازة طويلة انتظاراً لحلول موسم الحصاد من جديد. سئل أحد المسؤولين في مجال العلاقات العامة عن رأيه، أهو مع المعارضة أم مع الحكومة؟ فأجاب: أنا ضد القتل والسحل والتدمير من أي كان، أما عن نفسي فأنا مستقل فلست مع هذا ولا مع ذاك، كل ما أريده من الحكومة أن تدع الشعب في حاله هذا هو الحد الأدنى أو الواجب الحكومي على الأقل، ثم بعد ذلك فلتفعل الحكومة أو المعارضة ما تشاء في المجال السياسي. فالحكومة التي لا تستطيع ترك الناس أحراراً في الحصول على قوتهم اليومي حري بها أن تتنحى عن مسؤولياتها مهما كانت المبررات السياسية قوية لبقائها، لأن الحكومة التي لا تطعم الناس شيئاً فـإنها تلقمهم حصرماً باستخدام الشعارات البراقة فهي والهواء سواء فمن يمسك به؟ إذا استمرت تايلاند في اجترار الصراعات السياسية، فإن المتضرر الوحيد هو الاقتصاد الذي يعتاش من خلاله جميع أفراد الشعب. لقد آن أوان إعادة التفكير في سلم أولويات الحياة في هذا البلد المسالم منذ النشأة، فإذا لم تتغلب السياحة على السياسة، فإن مصير الملايين من التايلانديين سيصبح في قبض الريح، فهل في الساسة بقية من الرشد من أجل استمرار سبل التنمية بدل إحراق عجلاتها في المراكز التجارية والطرقات السريعة.