سعت إسرائيل منذ إقامتها عام 1948 إلى كسب عقل الغرب وقلبه، والتأثير في المجتمع الدولي عموماً، عبر وسائل من أهمها ادعاء أن وجودها في خطر لأن الدول العربية تريد تدميرها. ورغم أن عدوان 1967 أثبت فعلياً عدم صحة ذلك الادعاء، فقد ظل أثره مستمراً إلى حد أن من صدقوه أو تأثروا به صاروا عاجزين عن مراجعته. ولذلك لم ينتبه كثير منهم إلى أن الخطر على إسرائيل أصبح من داخلها، بسبب تصميمها على رفض كل يد عربية تُمد إليها ومقاومة الجهود السلمية التي توفر لها فرصة العيش كما لو أنها دولة طبيعية. فهي تصر على أن تحبس نفسها في عقدة ولادتها غير الطبيعية، وأن تبقى بالتالي كيانا استعماريا أقيم على أرض مغتصبة، وأن تظل فاقدة الشرعية الحقيقية التي لا سبيل إليها بدون قبول جيرانها بها واندماجها في الإقليم الذي وُجدت فيه. وبعد أن أهدرت فرصة تاريخية نادرة وفرها لها "اتفاق أوسلو" عام 1993، ورفضت مبادرة السلام العربية التي تفتح لها الباب إلى الشرعية الإقليمية، أصبح العنف الهمجي هو عنوان سياستها منذ العدوان على لبنان عام 2006 وحتى الاعتداء على قافلة الحرية 2010. وهي تنزل بنفسها، عبر هذا العنف، خسارة أخلاقية فادحة لا تمنى بها إلا دولة هائمة على وجهها تضرب وتقتل بشكل عشوائي. وهذا هو ما يقلق، الآن، بعض أنصار إسرائيل ممن يدركون الخطر المترتب على جموحها المتزايد إلى العنف الدموي. وهو ما نبَّه إليه أحد أصدقائها الأميركيين، وهو الأكاديمي اليهودي "هنري سيغمان"، في مقالة ملهمة نشرتها "هآرتس" قبل أيام تحت عنوان "أعظم خسائر إسرائيل: صورتها الأخلاقية". وإذا كان بعض محرري هذه الصحيفة وآخرون في إسرائيل، قلقين لما تفعله إسرائيل بنفسها، فهم لا يمثلون إلا أقلية في هذا الكيان. وإذا كان بعض قادة حزب "العمل" عبروا عن هذا القلق وأنذروا إيهود باراك بأنهم سيعملون لإسقاط الائتلاف الحاكم الذي يشارك حزبهم فيه بخمسة وزراء إذا لم يراجع السياسة التي تهدد إسرائيل بعزلة دولية خانقة قبل سبتمبر القادم، فهم أيضاً أقلية في هذا الحزب الذي تضاءل وزنه فلم يحصل إلا على 13 مقعداً في الكنيست الحالي. وإذا كان الرئيس بيريز، أقدم قادة "العمل" الآن، يؤيدهم، فهو لا حول له ولا قوة لأن صلاحياته الرسمية بروتوكولية وموقعه في هذا الحزب رمزي. وهكذا يبدو أن الاتجاه السائد في إسرائيل يأخذها إلى هاوية قد تكون سحيقة عبر التصميم على سياسة القوة الغاشمة التي لا يرضى أصحابها إلا بتصفية قضية فلسطين وإرغام العرب على استسلام مهين. ويظن صانعو هذه السياسة، الذين يحظون بتأييد متزايد في مجتمع يزداد تطرفاً باضطراد، أنهم يدمرون أعداءهم فيما هم في الواقع يلحقون دماراً بأهم مصادر قوتهم وهو الدعم الذي تمتعت به إسرائيل في الغرب. فقد صارت هذه العلاقات موضع مراجعة في عدد متزايد من الدول الأوروبية منذ العدوان على قطاع غزة في نهاية عام 2008، ثم عقب فضيحة تزوير جوازات سفر صادرة في بعض هذه الدول لاستخدامها في عملية استخباراتية دموية في دبي قبل أشهر قليلة. ويشمل ذلك بريطانيا التي كان لها أكبر دور على الإطلاق في إقامة إسرائيل. لكن خسارة إسرائيل تبدو أكبر على صعيد الرأي العام والمجتمع المدني في كثير من الدول الأوروبية. وفي بلاد ديمقراطية تُنتخب حكوماتها، تنتقل التحولات التي تحدث على مستويات غير رسمية إلى المستوى الحكومي حين تصبح من بين العوامل المؤثرة في نتائج الانتخابات. ولا يقل أهمية عن ذلك التغير في اتجاهات ومواقف مؤسسات اقتصادية ومالية أوروبية تجاه إسرائيل. ولعل آخر مؤشر مهم في هذا المجال قرار مصرف "دويتشا بنك"، وهو أكبر المصارف في ألمانيا، فك الارتباط مع شركة "البيت" الإسرائيلية المتخصصة في تصنيع أنظمة إنذار ومراقبة بسبب مشاركتها في إقامة منظومات رقابة إلكترونية لحماية المستوطنات في الضفة الغربية وجدار الفصل العنصري. وهذه خطوة متقدمة سبقها رفض دول أوروبية عدة استيراد سلع إسرائيلية من إنتاج المستوطنات. والمفارقة ذات الدلالة المهمة، هنا، هي أن رفض بعض الأوروبيين استيراد منتجات المستوطنات سبق القرار الذي اتخذته السلطة الفلسطينية قبل أشهر قليلة لتشجيع مقاطعة هذه المنتجات في مختلف أنحاء الضفة الغربية. ويؤكد ذلك أن الخطر على إسرائيل الآن ينبع من الآثار الدولية لسياستها التي تؤدي إلى تراجع الدعم الخارجي الذي تحظى به. والأرجح أن يستمر هذا التراجع ويزداد مع التوسع في سياستها العدوانية وما يقترن بها من جرائم لا يستطيع أحد إخفاءها ولا يمكن التعتيم عليها في عصر الصورة وزمن ثورة الاتصالات. وهذا ما نبه إليه الفيلسوف الفرنسي اليهودي "برنار هنري ليفي"، وهو أحد أشد أنصار الصهيونية، عندما قال إن إسرائيل تخسر في حرب الصورة. قد لا يكون بإمكان إسرائيل العيش بدون المساندة الدولية التي ما كان لها أن توجد في غيابها. وإذا فقدت المساندة الأوروبية، وضعف الدعم الأميركي لها، وواصلت هي لا مبالاتها إزاء تداعيات الجرائم التي ترتكبها، فسيكون هذا نزعاً لشرعية دولية حصلت عليها ولم تستكمل مقوماتها. وعندئذ ستظهر أمام العالم عارية من القناع، وسيكون ممكناً معاملتها باعتبارها دولة فصل عنصري على نسق جنوب إفريقيا، فضلا عن كونها دولة احتلال ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق الخاضعين لاحتلالها وبعض جيرانها. وعندئذ، لابد أن يُعاد إنتاج السؤال الذي أثير عند إقامة إسرائيل، وهو إلى أي مدى يمكن أن يعيش كيان مصنوع رفضته البيئة المحيطة به، لكن في صيغة أكثر دلالة على مدى حدة المأزق الذي يواجهه هذا الكيان الآن، وهي: هل يمكن أن يبقى طويلاً أي كيان يرفض التعايش السلمي في محيطه الإقليمي لأنه يأبى دفع الثمن اللازم لتحقيق السلام، ويعجز في الوقت نفسه عن إخضاع هذا المحيط وإرغام أصحاب الحقوق التي سلبها منهم على الاستسلام له. لقد كان السؤال قبل 60 عاماً عن وجود إسرائيل مرتبطاً بقدرة العرب على إلحاق هزيمة ساحقة بها. وهو الآن يتعلق بقدرة إسرائيل على وضع حد لجموحها العدواني وما ينطوي عليه من تدمير ذاتي صار احتمالا لا يمكن استبعاده عند رسم سيناريوهات المستقبل.