بصفتي ناقداً قديما لمفهوم العملة الأوروبية الموحدة، لم يغامرني البتة شعور بالفرح والسرور للمشكلات الحالية التي ضربت منطقة اليورو، والتي تهدد اليورو وبقاءه. وقبل أن أتطرق للأحداث التي صاحبت أزمة الدين اليونانية بالمزيد من النقاش، عليّ أن أقدّم هنا تعريفا عمليا لمعنى كلمة "انهيار". ففي سياق اليورو، هنالك تفسيران على الأقل يتبادران إلى الأذهان.الأول يرى بأن مشروع منطقة اليورو قد انهار مسبقاً، وذلك بسبب إخفاقه في تحقيق النتائج الإيجابية التي كانت متوقعة منه. عملية إنشاء منطقة "اليورو" قد تم تقديمها على أنها منفعة اقتصادية لا لبس فيها لجميع البلدان الراغبة في التخلي عن عملاتها النقدية التي كانت موجودة لعقود، أو قرون. لقد نُشرت دراسات مكثفة، ولكنها منحازة، شبه علمية، قبيل الشروع بإطلاق العملة الموحدة. وقد وعدت هذه الدراسات بأن اليورو سيساعد على النمو الاقتصادي، ويقلل التضخم، وأكدت بشكل خاص على التوقعات بأن الدول الأعضاء في منطقة اليورو ستكون في مأمن من جميع أنواع الأزمات الاقتصادية غير المرغوبة والصدمات الخارجية. وبعد تأسيس منطقة اليورو، تباطأ نمو دول الأعضاء الاقتصادي مقارنة مع ما كان عليه الحال في العقود السابقة، مما زاد في حجم الفجوة بين سرعة النمو الاقتصادي في بلدان منطقة اليورو ونظيره في الاقتصاديات الكبرى كاقتصاد الولايات المتحدة والصين، والاقتصاديات الأصغر في جنوب شرق آسيا وبعض الدول النامية، فضلا عن دول أوربا الشرقية والوسطى، التي لم تنضم ِ إلى منطقة "اليورو". منذ ستينيات القرن العشرين، تباطأت معدلات النمو الاقتصادي في بلدان المنطقة، ولم يؤد وجود اليورو إلى الحد من هذا التباطؤ. وحتى الاندماج المتوقع في معدلات التضخم لبلدان منطقة "اليورو" لم يحدث. وتشكّلت مجموعتان مختلفتان من الدول ضمن منطقة اليورو – إحداهما بمعدل تضخم منخفض، والأخرى (والتي تشمل اليونان، وإسبانيا، والبرتغال، وإيرلندا، وبعض الدول الأخرى) بمعدل تضخم مرتفع. ورأينا أيضا زيادة ً في حالات عدم التوازن التجاري طويلة الأمد. فمن ناحية، هنالك بلدان ذات ميزان تجاري يفوق فيه حجم الصادرات حجمَ الواردات، ومن ناحية أخرى، هنالك بلدان تستورد أكثر مما تصدّر. لذا فليس من قبيل المصادفة أن تعاني البلدان الأخيرة أيضاً من معدلات تضخم أعلى. لذا فإن تأسيس منطقة اليورو لم يؤد إلى أي تجانس أو انسجام فيما بين اقتصاديات الدول الأعضاء، ولم تقم الأزمة المالية العالمية إلا بمفاقمة وكشف جميع المشكلات الاقتصادية في منطقة اليورو. أوتمار إيسينج، أحد الاقتصاديين الكبار في البنك المركزي الأوروبي، قال مراراً تأسيس منطقة "اليورو" كان قراراً سياسياً في المقام الأول. لكن ذلك القرار لم يأخذ بالحسبان مدى ملائمة هذه المجموعة الكاملة من الدول لمشروع عملة واحدة. ولا شك أن تكاليف تأسيس منطقة العملة الموحدة وإدامتها ستفوق الفوائد المتوخاة منها. لم أشكك أبدا بحقيقة أن أسعار الصرف في البلدان التي انضمّت لمنطقة اليورو كانت تعكس بشكل أو بآخر حقيقة الوضع الاقتصادي في أوروبا في زمن ميلاد اليورو. ولكن، خلال العقد الأخير، اختلف الأداء الاقتصادي لبعض أعضاء منطقة اليورو، وأصبحت التأثيرات السلبية "الإجبارية" لفرض عملة واحدة على الدول الأعضاء أكثر وضوحا. فعندما ساد ’الجو الجيد‘ (بمعناه الاقتصادي)، لم تظهر أية مشكلات. ولكن ما إن وصلت الأزمة، أو ’الجو السيء‘، أخذ الافتقار إلى الانسجام بين أعضاء منطقة اليورو يتجلى بوضوح. ومن هذا المعنى، أستطيع القول إن منطقة اليورو قد أخفقت – كمشروع واعد بالنفع والفائدة الاقتصادية الكبيرة لأعضائه. من المسائل المثيرة بالنسبة إلى السياسيين وغير المختصّين (وليس بالنسبة إلى الاقتصاديين) هي التساؤل عن إمكانية انهيار منطقة اليورو كمؤسسة. وجوابي على هذه المسألة هو "لا" سوف لن تنهار. لقد استـُثمِر الكثير من رأس المال السياسي في وجود اليورو ودوره بوصفه"الإسمنت" الذي يربط الاتحاد الأوروبي في طريقه نحو (ما فوق الأممية) بحيث لن يُتخلى في المستقبل المنظور عن منطقة اليورو بكل تأكيد. هذه المؤسسة ستستمر، ولكن بثمن باهظ للغاية سيدفعه مواطنو بلدان منطقة اليورو (كما سيدفعه بشكل غير مباشر الأوروبيون الذين ابقوا على عملاتهم النقدية الخاصة). أما ثمن إدامة اليورو فسيكون النمو الاقتصادي المتدني في منطقة اليورو. فالنمو الهزيل في تلك المنطقة سيتسبب في خسائر اقتصادية في بلدان أوروبية أخرى، مثل جمهورية التشيك، وفي سائر أنحاء العالم. وسيكون سعر "اليورو" المرتفع ملحوظا جداً في حجم التداولات المالية التي يتوجب إرسالها إلى بلدان المنطقة التي تعاني من أكبر المشكلات المالية والاقتصادية. أما الفكرة القائلة بأن هذه التحويلات لن تكون سهلة دون وجود اتحاد سياسي فكانت معروفة لدى المستشار الألماني هولمت كول منذ عام 1991 عندما قال إن "التاريخ الحديث، ليس في ألمانيا فحسب، يعلّمنا أن فكرة إيجاد اتحاد اقتصادي ونقدي على المدى البعيد، دون وجود اتحاد سياسي، ما هي إلا مغالطة كبيرة." ولكن يبدو أن كول قد نسيها، لسوء الحظ، مع تقادم الزمن. الاتحاد النقدي الأوروبي لن يكون مهددا بالإلغاء، وسيستمر ثمن الإبقاء عليه بالارتفاع، غير أن جمهورية التشيك لم ترتكب خطأ عندما تجنبت اللحاق بركب منطقة "اليورو" حتى الآن. ------- فاسلاف كلاوس رئيس جمهورية التشيك، ورئيس وزرائها الأسبق خلال الفترة 1992-1997. ------ ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"