ليس صدفة أن يختار دوفيلبان يوم أول أمس السبت، التاسع عشر من يونيو، موعداً لإطلاق تنظيمه السياسي الجديد، ففيه وجّه ديجول، قبل سبعين عاماً، نداءه الشهير من أجل مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا، وها هو دو فيلبان أيضاً يختاره لإلقاء الخطاب التأسيسي لتنظيمه الجديد، مصراً على أن الأمر يتعلق بحركة "حرة ومستقلة ومفتوحة للجميع... وفوق كل الانقسامات السياسية"، تيمناً بما فعله ديجول حين سمى تنظيمه السياسي "تجمعاً" وليس حزباً. وتأتي عودة دو فيلبان إلى الواجهة بعد أن بقي لفترة طويلة في الظل، أو بالأحرى بعد إغلاق ملف قضائي أوقف مسيرته السياسية خلال السنوات الأربع الأخيرة. ففي 28 يناير الماضي أصدرت الغرفة الحادية عشرة في محكمة باريس الابتدائية حكمها في القضية الشهيرة باسم "فضيحة كليرستريم"، بتبرئة دو فيلبان من التهمة الموجهة إليه. وتعود خيوط القضية إلى ظهور معلومات مفادها أن دو فيلبان أوعز، في عام 2004، للسلطات الأمنية بفتح تحقيق سري يطال وزير الداخلية في حينه وغريمه السياسي ساركوزي حول قضية "كليرستريم"، فاعتبر ساركوزي أن دو فيلبان أراد بذلك تلطيخ سمعته وتدمير طموحاته السياسية، بضم اسمه إلى لائحة من مبيضي الأموال... ليتواجه الخصمان اللدودان أمام القضاء الفرنسي طوال الفترة الماضية. وقد اتضح للمحكمة أن اللائحة مزورة وأن مصدرها اللبناني عماد لحود، عبقري الكومبيوتر، أنشأها بمحاكاة نسخة أصلية حصل عليها من "فلوريان بورجس"، وهو موظف في شركة تحكيم مالية دولية كان يدرس السجلات المالية لـ"كليرستريم". لكن لحود ادعى اختراق شبكة كليرستريم، وأضاف الاسم الهنجاري لساركوزي، وهو "ستيفان بوسكاسا ساركوزي"، إلى قائمة بأسماء أربعين شخصية سياسية قال إنهم تلقوا رشى في صفقة بيع بوارج حربية فرنسية إلى تيوان عام 1991، وأن عمولاتهم دخلت حسابات في مؤسسة "كليرستريم" المالية، ومقرها لوكسمبورج. أما التهمة الموجهة من الإدعاء ضد دو فيلبان تحديداً فهي "التواطؤ في وشاية كاذبة" للإساءة إلى ساركوزي، من خلال جان لوي غروغوار، نائب رئيس مجموعة eads العملاقة للطيران والدفاع، وصديق دو فيلبان، الذي اعتبرته المحكمة أخيراً بمثابة العقل المدبر لعملية تزوير اللوائح. ورغم أن دو فيلبان ظل يصر على نفي اتهامات الإدعاء ضده، وعلى أنه ضحية حملة انتقامية من ساركوزي، فقد خضع لتحقيق قضائي مطول، وتم استجوابه أربع مرات، وتعرض بيته ومكتبه للتفتيش مرتين. وأخيراً جاء إعلان الحكم ببراءته، فألقى كلمة مختصرة صوّب فيها سهاماً غير مباشرة نحو الرئيس الحالي من خلال امتداح القضاء الذي عرف كيف "يغلّب العدالة والقانون على السياسة". أما ساركوزي الذي كان يحتفل بعيد ميلاه الـ55، فأعلن أنه لا ينوي تقديم طعن لاستئناف الحكم. وبذلك انتهت إحدى أكثر المعارك السياسية إثارة في أروقة القضاء في فرنسا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، واعتبر الكثيرون أن الفائز الأكبر فيها هو دو فيلبان الذي يتطلع للانخراط مجدداً في العمل السياسي وربما منافسة ساركوزي في انتخابات الرئاسة لعام 2012. و"دومينيك ماري فرانسوا رينيه جالوزاو دوفيلبان"، السياسي والدبلوماسي والكاتب ورئيس الوزراء الفرنسي السابق، هو نجل اكزافييه جالوزاو دوفيلبان، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي عن حزب "الاتحاد من أجل الحركة الشعبية". أما والدته فهي "إيفون هيتيير"، المستشار الأول بالمحكمة الإدارية في باريس. وتعود أصول عائلة دو فيلبان إلى نبلاء الأرستقراطية الفرنسية القديمة، وقد تولى كثير من أفرادها مناصب رفيعة في الجيش والبرلمان ووزارة الخارجية وكبريات الشركات الصناعية. أما "دومينيك دو فيلبان" فولد في الرباط بالمغرب عام 1953، وأمضى الجزء الأكبر من طفولته في الخارج، في إفريقيا والولايات المتحدة وفنزويلا، حيث كان والده دبلوماسياً. ولدى عودته إلى فرنسا، تابع دراسته بالمدرسة اليسوعية في تولوز فحصل على شهادة الباكالوريا متفوقاً، ليلتحق بكلية الآداب، ثم بمعهد الدراسات السياسية في باريس، كما واصل تعلم القانون، قبل أن يلتحق بالمدرسة الوطنية للإدارة ليتخرج منها ضمن دفعة ضمت أيضاً فرانسوا هولاند وسيجولين رويال. انضم دو فيلبان إلى "التجمع من أجل الجمهورية" في عام 1977، وبدأ مشواره الدبلوماسي في عام 1980 كسكرتير أول للشؤون الخارجية. وبين عامي 1984 و1989 عمل سكرتيراً أول بالسفارة الفرنسية في واشنطن، قبل أن يصبح مستشاراً أول بسفارة بلاده في نيودلهي بين 1989 و1992. وفي العام التالي، كانت البداية الفعلية لمشواره السياسي حين عُين مديراً لديوان وزير الخارجية آلين جوبي في حكومة إدوارد بالادير. وبعيد انتخاب شيراك رئيساً للجمهورية في مايو 1995 عّينه أميناً عاماً للرئاسة، ثم واصل شيراك تقريبه فاختاره في عام 2002 وزيراً للخارجية، وكان التعبير الأوضح عن الوجه الديجولي لفرنسا. وفي 14 فبراير 2003 ألقى في مجلس الأمن خطابه الشهير الذي كان مرافعة قوية ضد خيار الحرب على العراق. وفي مايو 2005، عينه شيراك رئيساً للوزراء بدلا من جان بيير رافارين، بينما عين منافسه اللدود ساركوزي وزيراً للداخلية. وخلال قيادته الحكومة، واجه دو فيلبان الكثير من المصاعب، لاسيما الإضرابات النقابية التي شلت الحياة في أكثر من قطاع حيوي. لكن الطامة الكبرى كانت تفجر فضيحة كليرستريم في وجهه في مايو 2006، والتي لم تتوقف تفاعلاتها برحيله من المنصب في مايو 2007 عقب انتخاب ساركوزي رئيساً للجمهورية، بل تواصلت واشتدت بقوة خلال العام الماضي. لكن ها قد خرج دو فيلبان من معركته القضائية وبدأ يتحدى ساركوزي بنبرة ديجولية مرتفعة، منتقداً سياساته، ومتسائلا يوم السبت الماضي: أين هي فرنسا في إفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وإيران؟ وماذا عن موقفها من محنة الشعب الفلسطيني؟ ويبدو أن دوفيلبان الذي يستغل التململ الحاصل داخل اليمين وحول ساركوزي الذي فقد الكثير من شعبيته، لم يشأ تقديم نفسه كبديل من داخل الحزب الحاكم، الخاضع لسيطرة ساركوزي منذ عام 2006، وإنما أنشأ إطاراً سياسياً جديداً يضم بقية المؤمنين بالديجولية بعد أن "غدرها" ساركوزي وأصابها رماد "كليرستريم"! محمد ولد المنى