في مؤتمر عن دور الإعلام في الانقسام الفلسطيني نظمته مؤسسة مواطن في رام الله مؤخراً قُدمت أوراق عمل ودراسات أكدت الانطباعات العامة عن الدور السلبي الذي لعبه الإعلام الفلسطيني في ذلك الانقسام. اصطفت وسائل الإعلام الحزبية فور الانقسام بحسب ولاءاتها، ثم سرعان ما أطلقت حملات تشويه وتشهير باتجاه الطرف الآخر تجاوزت كل الحدود الحمراء. وفي جلسات المؤتمر التي ناقشت الإعلام الفتحاوي والحمساوي و"المستقل" بأشكاله المتنوعة، التلفزيونية، والإذاعية، والصحافية، والإلكترونية وكانت النتيجة واحدة... وكارثية، فقد انحدرت وسائل الإعلام تلك إلى الدرك الأسفل وأخرجت خصمها الفتحاوي أو الحمساوي، بحسب وسيلة الإعلام، من كل دوائر الوطنية. وأهم وسائل التأثير الإعلامي -كما نعلم جميعاً- هي التلفزيون، وفي حالتي "تلفزيون فلسطين" و"تلفزيون الأقصى" أثبتت الأمثلة والشواهد الإحصائية التي قدمت إلى المؤتمر أن هذه الوسائل الإعلامية تخلت عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في إيصال المعلومة ومناقشة الآراء المختلفة، والأسوأ من ذلك أنها جندت نفسها لتلعب دور شاعر القبيلة الهجَّاء الذي يرى الملائكة في قبيلته والشياطين في قبيلة الآخر. ربما يرى البعض أن مؤتمراً حول هذا الموضوع لن يأتي بجديد في هذا الشأن ذلك أن سوء أداء الإعلام الفلسطيني خلال الانقسام، وحتى الآن في بعض جوانبه، كان مُشاهداً من قبل الجميع ولا يحتاج لإثبات. وقد تكون في تلك الملاحظة صحة ما، لكن المداخلات التي قدمها أكاديميون وصحفيون فلسطينيون والنقاشات التي تلتها أفرزت ثلاثة أمور مهمة. الأول هو إعادة النظر في مسألة دور الإعلام الفلسطيني الانقسامي عن طريق تقديم دراسات إحصائية قائمة على متابعة ورصد لفترات زمنية مختلفة، وليس انطباعات وأمثلة متفرقة. أي أن جوانب كثيرة مما هو معروف ومترسخ في الأذهان تم فحصها وإثباتها بتحليل عملي ومنهجيات غير انتقائية. والأمر الثاني أن النقاش فتح في هذا الموضوع المفصلي بشكل مكثف ومن زاوية استخلاص النتائج والدروس، وعبر مشاركة من قبل إعلاميين هم في قلب الميدان. وقد أشار أكثر من مُشارك إلى أن هذا النقاش يكاد يكون الأول لناحية التكثيف والتركيز على دور الإعلام في الانقسام، وهو أمر مثير للدهشة حقاً إن كان دقيقاً ذلك أنه من المشروع توقع خضوع هذا الأمر لنقاشات كثيرة ومسبقة بسبب أهميته وبروزه في وجه الجميع خلال السنوات الثلاث الماضية. ولكن الأمر الثالث، والأهم، هو ما تم طرحه من أفكار ومقترحات لترشيد الإعلام الفلسطيني (خاصة الفتحاوي والحمساوي) وعقلنة التعبير عن الخلاف السياسي والبحث في آليات ممكنة التطبيق لتحقيق ذلك. وفي هذا السياق يتوجب الانطلاق من نقطة واقعية أساسية هي الإقرار الأولي بالخلاف والتعددية السياسية كأحد جوانب الحياة التي لا فكاك منها. وليس هناك اجتماع سياسي بشري يريد تبني الحد الأدنى من الصيغ الديمقراطية لإدارة شؤونه العامة إلا ويتصدره الخلاف والتنافس السياسي. ولا يغيب هذا التنافس إلا في حالات الاستبداد والكبت وسيطرة طرف ما على مفاصل القوة والسلطة والثروة واستبعاد كل الآخرين وإزاحتهم عن الساحة باستخدام آليات ديكتاتورية. ومعنى ذلك أن الخلاف السياسي، مهما بلغت حدته، هو ظاهرة بشرية طبيعية يجب ألا تخيف الناس أو تصيبهم بالإحباط واليأس. ولكن المهم هو كيفية إدارة الخلاف السياسي والسيطرة على آليات الخلاف لتظل سلمية بالدرجة الأولى وتقوم على الاعتراف بحق الآخر في الوجود السياسي وليس نفيه أو إقصائه. ولعل أهم اقتراح تناوله المؤتمر كان الدعوة لتشكيل مرصد أو هيئة وطنية عليا وغير رسمية لمراقبة التحريض الداخلي، وظيفتها متابعة وسائل الإعلام وإصدار تقارير وبيانات دورية تكشف المواد التحريضية وتدينها وتخلق رأياً عامّاً واسعاً ضدها. وتشرف على مثل هذه الهيئة مجموعة من منظمات المجتمع المدني والشخصيات الاعتبارية المستقلة التي تحظى باحترام وقبول من كافة الأطراف ومعروفة بنزاهتها وحرصها على المصلحة الوطنية. ويتأسس عمل مثل هذه الهيئة على صوغ مجموعة من الأخلاقيات الإعلامية والمصطلحات المتوافق عليها وتهدف إلى إزاحة كل مخلفات اللغة الإقصائية والتخوينية والتكفيرية التي أنتجها إعلام الانقسام. والراهن أن إعلام الانقسام بكل أشكاله وألوانه خلق جراحاً عميقة في الوجدان الوطني الفلسطيني العام وفي الوجدان العربي والإسلامي المؤيد لقضية فلسطين في كل مكان. وقد آن الأوان للعقلاء في تياري "فتح" و"حماس" أن يتدخلوا لوقف التفاهات والدمار الإعلامي والأخلاقي والوطني الذي تشرف على إنتاجه أكثر الأصوات تطرفاً وأقلها نضجاً وأبعدها عن المصلحة الوطنية. ففي عصر الإعلام المعولم والإنترنتي يصل ما ينتجه هؤلاء إلى حدود جغرافية وفضائية لا يتصورونها هم، ويتعدى الدمار الذي يصدرونه كل مدى متخيل. ولا يعني ما سبق تقديم أي تنازل على مستوى الحريات الإعلامية والسياسية التي يجب أن يتواصل دفع سقوفها إلى الأعلى. فكل ما يحدث سواء من تجاوزات أو من محاولة لكبح تلك التجاوزات يجب أن يتم في إطار المحافظة على سقف حرياتي وديمقراطي عالٍ. ولهذا السبب يجب ألا تكون الهيئة المُقترحة رسمية تملك أي سلطة أو مقربة من أي سلطة. فكل ما تملكه هو سلطتها الأخلاقية والمعنوية القائمة على نزاهة من يشرفون عليها، والتي تكون معنية في الوقت نفسه بالدفاع عن الحريات الإعلامية والسياسية ورفضها التورط في أية عملية لمحاصرة تلك الحريات بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن التجاوزات المفرطة التي رأيناها خلال مرحلة الانقسام، ولا نزال نراها، ينبغي ألا تزعزع ثقتنا بالحل الديمقراطي، والعودة التدريجية للأحادية السياسية بتسويغ الفوضى السياسية وشيوع الأخلاقيات الإعلامية السلبية بسبب انفتاح المجال الإعلامي لكل من هب ودب. فالحالة الفلسطينية، وكما هي بقية الحالات العربية، ما تزال في مرحلة جنينية لجهة كيفية التعامل مع واقع عالم الإعلام المعولم والمفتوح بكل ما يأتي به. وهناك إرث وتقاليد استبدادية وخوف من الانفتاح وتردد عميق في الاعتراف بالآخر، ونكوص سريع إلى عقلية وآليات الإقصاء، وزعم وقناعة حقيقية ذاتية في كثير من الأحيان عند الطرف المُستبد بأنه لو أرخى قبضته قليلا لتفكك الوطن برمته وهكذا. ومعنى ذلك أن ما نراه من ارتباك وفوضى وسوء استخدام للحرية يجب ألا يقود للنكوص عنها، بل ينبغي أن يدفع للتريث واعتبار ذلك جزءاً من التحول الذي لابد منه، والوجهة المستقبلية التي تتجه لها مجتمعاتنا، وتفترض علينا إيجاد المعادلات الاجتماعية المرنة، التي تعدل وتصوب الاختلالات وتبحث عن تعظيم المكاسب وتقلل من الانتكاسات ودمارها.