اليوم لن أخوض في غمار القضايا المعتادة التي دأبنا على تناولها باستمرار. ليكن اليوم هو يوم التغيير. لن أناقش مثلاً الشأن العراقي والصراع على تشكيل الحكومة والمناصب العليا في انتظار استحقاق الانسحاب العسكري الأميركي والمخاوف من عودة دوامة العنف. ولن أتناول الشأن الإيراني ومشروعه المتراجع والعقوبات الدولية والأميركية والأوروبية التي تتراكم. ولن أعلق على المشاريع الإقليمية المتصارعة أو عن تراجع شعبية أوباما في الفضاء الإسلامي بعد أكثر من عام على خطابي إسطنبول والقاهرة. ولن أخوض في معركة الدولة الأقوى في العالم ضد شركة "بريتيش بتروليوم" النفطية العملاقة بسبب التسرب النفطي الذي تمدد في خليج المكسيك مسبباً أسوأ كارثة بيئية تضرب بلاد "العم سام". وهنالك أيضاً دفق من قضايا الحرب والسلام وانشغالات الساعة الكثيرة من الأزمات الدولية إلى أحوال الطقس، كتراجع صورة إسرائيل ومناوراتها لمنع رفع الحصار عن غزة، وصعود النجم التركي الذي غير موازين وهيكلية القوى الإقليمية، وصولاً إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق في منطقتنا الخليجية مع وصولها إلى 53 درجة في الكويت مع ما يحمله ذلك من تداعيات سياسية بسبب عدم استعداد وزارة الكهرباء والماء للاستهلاك القياسي للكهرباء، ولأن تحذير الوزير بـ"رمضان مؤلم"، استفز النواب الذين هدد بعضهم باستجوابه. وكلها قضايا تستحق وقفات وتعليقات، دون شك. ومع سيطرة المونديال وطغيان مبارياته والتغطية المكثفة حوله أجدني اليوم مضطراً لمجاراة التيار الجارف. ولذا اعتبرت قلمي في استراحة من الشأن السياسي والأمني، في ملاذ كأس العالم وحُمى المباريات التي لا يعلو شيء عليها، حتى الأخبار العاجلة. وخاصة بعد أن سيطرت الإثارة والمتعة في الجولة الثانية وبدأ تساقط بعض الكبار والمرشحين للظفر بالكأس الحلم. ويتقدم المشهد في التداول الإعلامي شعب جنوب أفريقيا، الدولة الأفريقية الأولى مستضيفة بطولة كأس العالم لكرة القدم في نسختها التاسعة عشرة، دولة قوس قزح، بلاد نيلسون مانديلا أكثر سياسييها شعبية واحتراماً. ويأمل أبناء تلك الدولة أن يكون فريقهم "بافانا- بافانا" أفضل حالاً من وضع دولتهم، وأن تقربهم وتوحدهم انتصارات فريقهم واستضافتهم لكأس العالم مع العلامات الفارقة لمزمار "فوفوزيلا" المزعج الذي يصم الآذان. ولكن الخشية ما تزال قائمة من أن يواجه فريق جنوب أفريقيا خطر الإقصاء من الدور الأول بعد أدائه المتذبذب. كما يخشون من تفويت فرصة للانصهار الشعبي بين أغلبيتهم السوداء وأقليتهم البيضاء. وفي سياق الحديث عن المونديال، والشيء بالشيء يذكر، يبقى مؤلماً كيف يستمر الانحياز للغرب في كأس العالم أيضاً. وللتذكير فرئيس "الفيفا" منذ سنوات جوزيف بلاتر سويسري. وأيضاً من 32 فريقاً في المونديال هناك 13 فريقاً أوروبيّاً مقابل8 فرق من الأميركتين و6 فرق من أفريقيا للمرة الأولى، أما القارة الأكبر سكانيّاً -آسيا- فتتمثل بأقل عدد وهو 4 فرق فقط، مع أنها تؤوي نصف البشرية! ومن الدول الكبرى في النظام العالمي، تغيب أيضاً روسيا والصين! ومن دول مجموعة "العشرين" يغيب الثلث، ولا يمثل الاثنتين وعشرين دولة عربية سوى واحدة هي الجزائر التي خسرت مباراة الافتتاح أمام المنتخب السلوفيني واستبسلت في مواجهة الإنجليز لتخرج مرفوعة الرأس بتعادل بطعم الفوز. والآن الأمل معقود على الجزائر لتهزم أميركا حتى لا تودع البطولة، وحتى لا تجرف معها آمال الجزائريين والعرب المحبطين بما فيه الكفاية سياسيّاً واقتصاديّاً. وحتى لا نضيف لسجلنا الباهت الهزيمة أيضاً في عالم الرياضة. هل رأيتم؟ لا مفر من السياسة التي تتدخل حتى في الرياضة! الحال أنني أجد نفسي واقعاً في شباك السياسة عندما أتحدث وأقارن بين تواضع إنجازاتنا وقلة فرقنا العربية وأقارن بين حال جمهورية جنوب أفريقيا وحال منتخبها الذي نتمنى مع الجنوب أفريقيين أن يستمر في المنافسة. وحتى لو خرجت جنوب أفريقيا مبكراً من التصفيات فإن مجرد نجاحها في استضافة كأس العالم بعدما شكك كثيرون في قدرتها على ذلك يعد مكسباً هائلاً بكل المقاييس. ومع خسارة بعض الفرق الكبيرة المرشحة للفوز مثل إسبانيا وألمانيا، وتعادل بريطانيا والبرتغال، يعد مكسباً أيضاً الأداء الجيد لفرق صاعدة من قارات أوروبا مثل سلوفينيا وأفريقيا مثل الجزائر وغانا وآسيا مثل الكوريتين. هناك أمل أن يتوج في 11 يوليو القادم فريق جديد لم يسبق له الفوز على أمل أن يكون فريقاً من القارات المحرومة وقليلة التمثيل في "المونديال"، لعل ذلك يفتح الباب أمام الكثير من التغيير في المشهد الدولي، وعلى نحو يزحزح الانحياز الغربي ويضخ الكثير من الإثارة والمتعة والعدالة في أهم وأشهر رياضة في العالم يعشقها أكثر من نصف سكان المعمورة. مرة أخرى حاولت تجنب السياسة والابتعاد عنها، ولو لمرة واحدة، وأعترف -ختاماً- بصعوبة فصل السياسة عن قضايا الساعة المتداولة حتى لو كانت من عالم الرياضة!