تداعيات خيبة الأمل في كأس العالم... ودروس صدمة الاقتراع في بروكسل إخفاقات المنتخب الفرنسي في المونديال، والصراع لاستقطاب "الوسط" السياسي، وصدمة اقتراع بلجيكا، ومستقبل العلاقات الأوروبية- الروسية، موضوعات استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية. مونديال "منتخب الفاشلين"! فتح معظم كُتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية النار على المنتخب "الأزرق" بسبب نتائجه الرديئة في كأس العالم الجارية الآن في جنوب إفريقيا. صحيفة لوموند عددت ما اعتبرته عوامل لا حصر لها أدت إلى انهيار المنتخب أمام المكسيك، وظهوره بهذه الصورة الشاحبة للغاية، مؤكدة أن المنتخب قدم عروضاً مخيبة جداً للآمال تماماً كمستويات اللاعبين، ولعب بطريقة مثيرة للأعصاب تماماً كما كانت حال اللاعب أنيلكا الذي أفلتت أعصابه وتفوه بإساءات قبيحة إلى المدرب نشرتها "لوكيب" في مساحة المانشيت. كما عجز اللاعبون عن اللعب بصفة جماعية ولو للحظة واحدة، فظل كل واحد منهم شارداً يدور حول نفسه في ركن من أركان الملعب. يا لها من حالة محزنة ومزرية، تماماً كمظهر المدرب "دومنيك" الذي بدا كما لو كان مربوطاً على مقاعد البدلاء طيلة التسعين دقيقة. لقد رأينا منتخباً مناقضاً تماماً في لعبه ومعنوياته لمنتخب سنة 1998. إنه حقاً مرآة للمجتمع الفرنسي اليوم، حيث يتمركز كل حول أنانيته الضيقة، وحيث يفكر كل في نفسه وفي مرتبه الذي يتقاضاه من ناديه الأجنبي، منعزلاً عن حقائق الواقع في البلاد، وعن مشاعر المشجعين. وفي افتتاحية ثانية كتبها فابريس روسيلو في صحيفة ليبراسيون قال إن السحر ارتد على الساحر المدرب "دومينك" الذي ثبت انفصاله عن حقائق الواقع الكروي الفرنسي. ومن حسن الحظ أن فريق لاعبيه المتصف بالأنانية والفشل، قد وضع عمليّاً جداراً فاصلاً بينه وبين المشجعين، والمشهد الاستعراضي الوحيد الذي استطاعوا تقديمه حتى الآن في المونديال هو أخبار سبابهم وشجاراتهم البينية، التي غزت صفحات الجرائد. وقد نسي دومينيك وريبيري وأنيلكا وأمثالهم أن كرة القدم العالمية لم تعد فقط مجرد رياضة. فهنالك أبعاد سياسية ووطنية أهم تقف وراءها، بدليل أن جنوب إفريقيا تعتبر الآن أن استضافتها للمونديال تشكل اليوم علامة على صعودها الدولي في مرحلة ما بعد الآبارتايد. واليوم بتخييبهم آمال وأحلام الفرنسيين جنى "الديكة" على أنفسهم، وجعلوا الكراهية والغضب اللذين بدآ يتخلقان أصلا ضدهم قبل أشهر يصلان إلى مرحلة الذروة. ولكن في كل هذه التفاصيل والمرارات لعلنا نسينا أيضاً حقيقة قريبة المأخذ هي أنه: بمدرب سيئ وفاشل جداً، ولاعبين أسوأ وأفشل، لا يمكن تحقيق الانتصارات ولا المضي بعيداً في أطوار المونديال. صراع على "الوسط" الحراك السياسي المحسوس الآن في المشهد السياسي الفرنسي، تزامناً مع انعقاد مؤتمر قوى "الوسط" دفع بعض كُتاب افتتاحيات الصحف إلى استشراف بدايات الاستعداد من قبل الأحزاب، وفي أروقة قصر الأليزيه أيضاً، للرئاسيات المقبلة التي ستجرى بعد قرابة سنتين. في افتتاحية لوران جوفرين في صحيفة ليبراسيون قال إن كل من يعرفون ساركوزي عن قرب لا يتوقعون منه أبداً أن يرفع الراية البيضاء إذا ادلهمت عليه المصاعب والعوائق. وحتى لو كانت شعبيته في البلد على غير ما يرام إلا أنه، مع ذلك، ما زال يراهن على إمكانية الاستحواذ على تأييد قطاعات يعتد بها من "اليمين". وتدعم موقفه في ذلك ماكينة النخبة السياسية الإعلامية والمالية الهائلة. ويمكن القول إن الشرائح العليا من المجتمع الفرنسي ما زالت تفضله، على كل حال، مقارنة بأولئك "الاشتراكيين" الذين لا يعدون بشيء سوى فرض المزيد من الضرائب. والآن مع مساعي ساركوزي لاحتواء حزب اليمين المتطرف "الجبهة الوطنية"، بدأ أيضاً يسعى لتعبئة "وسط الأعماق" السياسي، لكي يصنع من هذه التعبئة ظروفاً يبدو من خلالها في نهاية ولايته الرئاسية (خمس سنوات) على أنه رئيس حامٍ للجميع، وليس فقط إصلاحيّاً، كما كان ذات يوم يفضل أن يوصف. ويمكن القول إننا نرى ساركوزي الآن، وفي هذه المرحلة المبكرة من الزمن، وهو منهمك في صناعة آلة حرب دعائية لا تبقي ولا تذر، هي ما سيعول عليه لضمان إعادة الانتخاب في رئاسيات 2012. وبالنظر إلى أوراق القوة والإمكانيات الهائلة المتاحة له، وليس أقلها وجوده في قلب السلطة في قصر الأليزيه، فإن فرص كافة منافسيه الآخرين ضمن أسوار الأغلبية الحاكمة تبدو ضعيفة للغاية. ولابد لمواجهته أن يتمكن اليسار الفرنسي خلال السنتين المقبلتين من إحداث قطيعة مع ممارساته السابقة وأيضاً أن يعمل على إيجاد نوع من المصداقية يفتقده الآن. ومن هاتين النقطتين ينبغي على مرشح -أو مرشحة- المعارضة أن يعطي إشارة انطلاق حملته المضادة. ومن جانبه قال فرانسوا مارتن في افتتاحية "ميدي ليبر" إن ما نشهد بداياته الآن هي حرب سياسية ثلاثية ستكون فرنسا على موعد قريب معها. ففي "الوسط" هنالك ثلاثة فرسان يتوقع أن يتسابقوا لانتزاع الترشيح وحجز مواقع متقدمة في المشهد السياسي قبل حلول موعد الرئاسيات وهم "موران" والوزير "بارلو" ومرشح "الوسط" في الرئاسيات السابقة "بايرو". ويبدو أن استراتيجية ساركوزي تقوم الآن على اللعب على تناقضات وتنافس هؤلاء الثلاثة، وخاصة أن رئيس الجمهورية حريص على أن يبقى هو المرشح الوحيد لـ"اليمين". ولذا فهو يدرس الآن باهتمام الفرص التي يتيحها وجود مرشح "وسط" مؤثر في رئاسيات 2012، والكيفية التي يمكن أن يصبح بها وسيلة تجميع لأصوات جمهور "الوسط" في الشوط الانتخابي الأول وضمانة لترجيح كفة ساركوزي في الشوط الثاني. ويتساءل الكاتب، ولكن إذا كانت هذه هي مواصفات مرشح "الوسط" المرغوب في الأليزيه، فمن يا ترى من المرشحين الثلاثة لزعامة "الوسط" يمكن أن تنطبق عليه؟ بالنسبة لهرفيه موران لن يفيد ساركوزي لأنه سيضعف فرصه في الدور الأول دون أن يفيده بكثرة الأصوات في الشوط الثاني، وبالنسبة لوزير البيئة بارلو لاشك أن ترشحه المحتمل سيعتبر خطيراً جداً في الأليزيه بالنظر إلى الرصيد الكبير من الثقة الذي يحظى به لدى الجمهور. ولا يبقى سوى فرانسوا بايرو الذي يبدو بالفعل هو الخيار الأفضل، ولذا يتوقع أن يسعى ساركوزي لدعمه، وإن كان الكاتب يعتقد أن تفكك تيار "الوسط" السياسي الفرنسي، خلال الأشهر المقبلة أصبح احتمالاً مطروحاً بقوة، هذا طبعاً دون استبعاد مرشح آخر يمكن أن يقلب كافة المعادلات هو "دومينيك دوفيلبان". بلجيكا: صدمة الاقتراع في افتتاحية صحيفة لوفيغارو اعتبر الكاتب بيير روسلين أن نتائج الاقتراع الذي جرى مؤخراً في بلجيكا قلبت كثيراً من المعطيات السياسية في ذلك البلد الذي تستضيف عاصمته مقر القيادتين الأوروبية والأطلسية. ذلك أن الفوز غير المسبوق الذي حققه الاستقلاليون "الفلامان" ممثلون في حزب "التحالف الفلاماني الجديد" بزعامة "بارت دي ويفر" يجعلهم عمليّاً في موقع الصدارة بإقليم "الفلاندر" أحد أقاليم مملكة بلجيكا الثلاثة، على رغم ميولهم الانفصالية الواضحة. والحال أن هذا الفوز يعود للجهود المتواصلة التي بذلها زعيم الحزب، ساعيّاً من ورائها إلى تفكيك بلجيكا، وإن كان يرفع لفظيّاً شعارات "التطوير" بدل "التثوير". وعن طريق الخطوة خطوة يريد التفكيك، داعياً في البداية إلى نوع من الفيدرالية الرخوة بين أقاليم المملكة. ونظراً إلى النتائج التي حققها تمكن حزب "التحالف الفلاماني الجديد" من تجاوز التشكيلات السياسية التقليدية في إقليم الشمال البلجيكي مثل "الديمقراطيين- المسيحيين" بزعامة "إيف لوترم"، الذين تعرضوا لاقتراع عقابي بعد ثلاثة أعوام من تخييبهم لتطلعات الناخبين الفلامان. ويعتبر روسلين أن فوز الاستقلاليين "الفلامان" يتيح لزعيمهم "دي ويفر" فرصة لعب أدوار استثنائية في المشهد السياسي وإن لم يصبح وصوله إلى رئاسة الوزارة وارداً من الأساس، لأن ما تحصل عليه من أصوات لا يمثل على الصعيد الوطني سوى 15 في المئة. هذا إضافة إلى أنه هو نفسه يبدو غير متحمس لتولي رئاسة الوزارة. والحاصل من واقع صعود التيار الانفصالي الفلاماني في بلجيكا أن الفجوة بدأت تتسع كثيراً بين المجمعتين السكانيتين الكبيرتين "الوالون" و"الفلامان". ومع أن هذا ليس خبراً جديداً إلا أنه يؤشر عمليّاً إلى حجم الصدمة الانتخابية التي تكشفت عنها تشريعيات بلجيكا نهاية الأسبوع المنقضي. وإذا لم تسعَ المجموعتان السكانيتان للتفاوض والتفاهم بكثير من حسن النوايا، فإن بلجيكا ستتجه حتماً، كما يتمنى لها ذلك "دي ويفر"، إلى التلاشي والاضمحلال. ولإنقاذ مستقبل المملكة ربما يتعين تعظيم صلاحيات حكم الأقاليم الثلاثة المكونة لها وهي "الفلاندر" و"والونيا" وبروكسل. وكلما زادت النزعات الانفصالية لدى "الفلامان" ينبغي أن تزيد أيضاً نزعات قبول "الوالون" بالتوصل إلى مقايضات وتسويات ممكنة، لأنه لا بديل آخر عنها رهاناً للمستقبل. ولعل من المفارقة -يقول الكاتب- أن فوز الانفصاليين "الفلامان" سيكون فرصة لأن يشكل ناطق باللغة الفرنسية الحكومة، وهي سابقة لم تقع منذ سنة 1970، حيث يرجح أن تتاح لـ"إيليو ديريبو" زعيم "الحزب الاشتراكي" فرصة تشكيل الحكومة، باعتباره الفائز في إقليمي بروكسل و"والونيا"، فيما قد يمثل بالنسبة لبلجيكا أول رئيس حكومة لآخر فرصة. ولا يبتعد كثيراً عن هذا الطرح "غوييوم جوبير" في افتتاحية "لاكروا" الذي يقدم رؤية متشائمة جداً حول مستقبل بلجيكا، معتبراً أنها ستتحول غداً، أو بعد غد، إلى نوع من الفيدرالية الفضفاضة، التي تضم بين جناحيها كيانين- دولتين، بحكم الأمر الواقع. درس من بوتين تحت هذا العنوان نشرت لوموند افتتاحية ناقشت فيها الاتهامات التي وجهها رئيس الوزراء الروسي بوتين لأنظمة السجون وحقوق الإنسان في فرنسا، في رد منه أثناء مقابلة أجراها مؤخراً مع شبكة تلفزيون فرنسية، حيث رد على سؤال إن كان يفهم قلق الفرنسيين إزاء انتهاكات حقوق الإنسان والاغتيالات في روسيا، فرد رجل موسكو القوي بابتسامة عريضة، معقباً: "نعم إنني أفهمه تماماً. فتلك عادة قديمة عند الأوروبيين، أعني محاولاتهم المستميتة فرض قيمهم ومعاييرهم على الآخرين. ألم تبحروا من بلدانكم خلال عهود الاستعمار، بزعم إدخال شعوب المستعمرات إلى حظيرة الحضارة؟ وبالنسبة لتلك الانتهاكات توجد في كل مكان، وإذا أخذنا، على سبيل المثال انتهاكات حقوق الإنسان في سجونكم الفرنسية فسنجد مجالاً ثرياً للمقارنة". ونسجاً على هذا الاتهام لفرنسا دعا الكاتب إلى ضرورة سد مثل هذه الثغرات بإصلاح أي خلل أو قصور في قيم ومنظومة حقوق الإنسان في فرنسا. وفي سياق متصل حلل أكاديميان فرنسيان في مقال نشراه في لوموند فرص وملامح الشراكة الممكنة الآن بين روسيا والاتحاد الأوروبي، على خلفية اجتماع عقد بين الطرفين بهذا الشأن في بداية الشهر الجاري. واعتبر الكاتبان أن اقتراب الذكرى العشرين لانهيار الاتحاد السوفييتي السابق ينبغي أن تكون مناسبة للتأمل في الفرص المهدورة وتلك الممكنة بين روسيا وأوروبا، وخاصة أن ثمة شعوراً متناميّاً الآن في موسكو بأن توجهات إدارة أوباما الانفتاحية على روسيا تفتح فرصاً لا حدود لها بينها وبين الغرب، وفوق هذا أن هامش التحرك الذي تتركه واشنطن الآن للأوروبيين يجعلهم يستشعرون قدرة أكبر على الانخراط في شراكة بناءة مع روسيا، خاصة أن تداعيات الأزمة المالية العالمية أفهمتهم حجم واتجاه التوازنات الدولية المقبلة. وفي المقابل فإن روسيا، على رغم عدم تأثرها بذات الدرجة بالأزمة (حيث إن حجم الدَّين العام فيها لا يتجاوز 10 في المئة من الناتج المحلي) إلا أن مخططيها الاستراتيجيين يدعون الآن لتكثيف الشراكة مع بقية القارة الأوروبية لتعويض التأخر الهائل عن جارتهم الشرقية الهائلة الصين. وأكثر من هذا وذاك أن رؤية الرئيس مدفيدف "روسيا إلى الأمام" التي عبر عنها في مقال نشر مؤخراً على موقع الكريملن، وفي موقع الصحيفة الموسكوفية الشهيرة "غازيتا"، تقر بضرورة العمل على تحديث روسيا مع إشارة ذات دلالة إلى ضرورة ربط ذلك بتحديث سياسي وديمقراطي. وفي المجمل فإن التقاء المصالح الراهن بين روسيا وأوروبا، معطوفاً على ما يبدو التقاء إرادات، يمكن أن يكون بداية جديدة لشراكة اقتصادية واستراتيجية لا تعوض بالنسبة للطرفين. إعداد: حسن ولد المختار