الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كانت علامة فارقة في تزايد الدعم التركي الرسمي للقضية الفلسطينية، وتوجيه انتقادات حادة لإسرائيل، والمطالبة بفك الحصار عن القطاع. ورغم ذلك، ظلت تركيا ملتزمة بالموقف العربي الرسمي من التسوية، مع التمسك بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، والرغبة في دخول منظومة "الاتحاد الأوروبي"... الأمر الذي سهل على أنقرة احتمالات لعب أدوار سياسية أفضل. لقد أصبحت تركيا فاعلة في أغلب ملفات المنطقة الشرق أوسطية، من حصار غزة إلى الملف النووي الإيراني. ولعل تبدل موقع تركيا في السنين الأخيرة من حليف وثيق للولايات المتحدة وإسرائيل، وعضو نافذ في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلى دولة صديقة لروسيا، وإيران، وسوريا، والسودان، هو تبدُل يطرح سؤالا مركزياً: ما حدود السياسة التركية في الشرق الأوسط في وقت تهدد فيه بقطع علاقاتها مع إسرائيل، شريكها العسكري والاستراتيجي الأول؟ الجمهورية التركية دولة إقليمية مهمة في المنطقة، وهي حريصة على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع العالم العربي، مثلما هي حريصة على لعب دور أساسي كقوة إقليمية كبرى. ومع ذلك، لا بد من إدراك حقيقة أن تركيا ليست وحدها. فاللاعبون الإقليميون الأساسيون في المنطقة الآن هم: تركيا، إيران، إسرائيل، وبالطبع عدا عن الولايات المتحدة وغيرها من الدول، وبالتأكيد الاتحاد الأوروبي كذلك. وربما لإدراكها هذه الحقيقة، اختارت تركيا أن لا تلعب دور باني أو قائد لأي محور؛ خلافاً لما فعلته وتفعله إيران. فتركيا ليست طرفاً في المحاور العربية، وهي تحتفظ بعلاقات جيدة مع كافة الدول العربية، وهذا أمر بالغ الأهمية. والسيناريو المقبول من تركيا، عربياً وإسرائيلياً، وأميركياً كذلك، هو الاستمرار في لعب "الدور الوسط". وهذا الدور، بحسب دراسة أعدها "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات" عن "الدور التركي في المنطقة وتأثيره على القضية الفلسطينية"، إنما جاء مبنياً -وفقا لرؤيتهم ورؤيتنا- "على أساس نجاح تركيا في رفع مستوى استقلالية قرارها وتأثيرها في المنطقة، وامتلاكها وضعاً وسطاً يحتفظ بكل العلاقات القائمة مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية، من دون أن يكون له موقع استراتيجي قيادي متقدم، إذ تسعى حكومة "حزب العدالة والتنمية" إلى مواصلة سياسة تعدد الأبعاد خارجياً وما تتطلبه من حل المشكلات وفتح الحدود مع الجيران وصولا إلى تكامل اقتصادي"، تماما كما عبر وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو عن تطلعه إلى حلول العام 2023. وتضيف الدراسة: "إن سياسة تعدد الأبعاد لا تعني استبدال محور بآخر أو الوقوف مع محور ضد آخر. ونظراً لاستمرار اعتبار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هدفاً استراتيجياً لتركيا، كما عضويتها في الأطلسي، وعلاقاتها مع إسرائيل... فإن منظومة العلاقات السابقة لتركيا ستتواصل بمعزل عن تراجعها بعض الشيء". وعليه، يمكن لتركيا توظيف "علاقاتها المتنامية مع البلدان العربية والإسلامية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، ويعطيها فرصاً بديلة". لقد حافظت تركيا في ذروة تعاطفها مع الشعب الفلسطيني على علاقات جيدة مع إسرائيل، وعلى استمرار التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري، وهذا مكّنها في مرحلة من المراحل من القيام بوساطة بين تل أبيب ودمشق. وانفتاح تركيا على القضية الفلسطينية لم يكن يوماً، وحتى في عهد "العدالة والتنمية"، على حساب إسرائيل. فمن جهة، ما تزال تركيا مرتبطة بنحو 60 معاهدة أمنية وعسكرية مع إسرائيل، كما تعد شريكها التجاري الإسلامي الأكبر. بل وفقا لصحيفة "صنداي تايمز" البريطانية، فإن هناك قاعدة لجهاز "الموساد" في شرق تركيا هدفها التجسس على إيران. ورغم المواقف التركية الجديدة، فقد بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا في عام 2009 ما مجموعه 1.073 مليار دولار، في حين بلغت الواردات الإسرائيلية من تركيا ما مجموعه 1.0388 مليار دولار، مع ملاحظة تراجع الصادرات والواردات بين الجانبين مقارنة بالسنة السابقة. والميزان التجاري على أهميته لم يمنع تركيا من تبني موقف ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية، بما في ذلك شرقي القدس والقطاع، والاتفاق على حل عادل لقضية اللاجئين. كما وقفت ضد أي تغيير في الهوية العربية لشرقي القدس. وانسجاماً مع خطها المركزي بعدم بناء أو قيادة محور، فإن هناك حدوداً لدور تركيا، تحديداً في موضوع قطاع غزة، لا ترغب بتجاوزها، بما في ذلك الدور المصري، حيث اعترفت أنقرة بذلك قائلة على لسان وزير خارجيتها أوغلو: "إن الدور التركي يمكن أن يكون مساعداً أو مكملا، لكنه لن يحل محل الدور المصري". كما أن تركيا الراغبة في إقامة علاقات جيدة مع كل العرب، والتي شاءت أن تكون على مسافة واحدة من الجميع، لا يمكن لها أن تمضي في خياراتها إلى النهاية لترجمة دعمها لغزة أو "حماس"، إذ ستحافظ على موقفها المبدئي ومساعداتها الإنسانية ووقفاتها الإعلامية، لكنها لن تذهب إلى حد اتخاذ مواقف تسبب إحراجاً لدول عربية أو للجامعة العربية المتأخرة دائماً في مواقفها. كما لن يتجاوز الدور التركي بشكل عام ما تتيحه الشرعية الدولية. وبعيداً عن نوازع "التهويل" و"التهوين"، فإن العلاقات بين إسرائيل وتركيا، أقوى من أن تنتهي بهذه السهولة. وهذا الاستخلاص يؤكده "آلون لئيل"، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية الذي شغل منصب سفير إسرائيل في أنقرة لفترة طويلة ويعتبر من أهم الخبراء في السياسة التركية حيث يضيف: "إن التدهور في العلاقات كان بسبب تراجع حكومة إسرائيل السابقة، برئاسة إيهود أولمرت، عن المفاوضات السلمية غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا. فإذا استؤنفت هذه المفاوضات في اسطنبول غدا، ستتحسن العلاقات من جديد. وإذا وافقت إسرائيل على إعطاء دور لتركيا في المفاوضات بين إسرائيل و(حماس)، فإن العلاقات ستزدهر". ويؤكد هذا الرأي خبراء غربيون (وأيضاً إسرائيليون)، وينوهون إلى أنه رغم مهاجمة الزعماء الأتراك لإسرائيل إعلامياً وسياسياً منذ سنة ونصف، فإن هذا لم يمنعهم من الاستمرار في التعاون العسكري معها. وفي كل الأحوال، تشير الحقائق على أرض الواقع إلى أن هذه العلاقة لن تتأزم على نحو أخطر مما هي عليه الآن أو بشكل دائم. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى تحالفات عميقة للطرفين أولا، وإلى أوضاع داخلية تحرص على عدم تجاوز المصالح العسكرية والاقتصادية والسياسية للطرفين، ثانياً. وهو ما أكده وزير الدفاع التركي، وجدي غونول، بعد الاعتداء على "أسطول الحرية" حين قال إن "التعاون في مجال الدفاع مع إسرائيل لن يتوقف، فالمشاريع بين البلدين ليست خطيرة ولا كبيرة". وهذا التصريح وحده يؤشر على أن أي عاصفة تهب بين تركيا وإسرائيل هي -على الأرجح- مرشحة لهدوء لاحق ولو على قواعد جديدة نسبياً وليس كلياً.