يبدو أننا كأمة لا نرى من الجمل إلا أذنه كما يقول المثل، فقد صفّقنا لهيلين توماس، سيدة الصحافة الأولى في أميركا، لأنها أدلت بتصريح غاضب لتقاعس إدارة أوباما عن مواجهة الهجوم الإسرائيلي على القافلة الإنسانية المتجهة إلى غزة، قالت فيه: ليخرج اليهود من فلسطين، ليعودوا من حيث أتوا، هذه أرض محتلة تعود إلى الفلسطينيين وليست أرض الألمان أو البولنديين. تستحق هذه الصحافية العجوز التي اقتربت من عامها التسعين التصفيق بلا شك، لأنها تتحلى بشجاعة نادرة دفعت ثمنها غالياً في بلد تعتبر إسرائيل ابنها المدلل... فقد انتقدها المتحدث باسم البيت الأبيض، ورفضت المجموعة الصحافية التي تعمل معها الوقوف إلى جانبها في مواجهة الحملة المنظمة ضدها. لكن إذا افترضنا أن هذا الموضوع يشبه الجمل، فإن التصفيق لهيلين والسكوت عن كل شيء آخر مرتبط بالموضوع أو بالجمل ارتباطاً لا يتجزأ، هو بالضبط كمن لم يرَ من الجمل إلا أذنه، كما فعلنا مع صور الفظائع التي ارتكبها الأميركيون في العراق وفيتنام، حيث تتداول هذه الأيام رسالة إلكترونية تحمل صورة الطفلة الفيتنامية "كيم فوك" تجري عارية وقد احترق جسدها بقنابل النابالم التي ألقتها القوات الأميركية على قريتها، وصورة الأم الفيتنامية التي تعبر مع أطفالها النهر هرباً من القصف الأميركي، وصورة السجين العراقي في سجن تشرف عليه القوات الأميركية وهو يحتضن طفله بينما رأسه مغطى بكيس أسود، وصور السجناء العراقيين العراة في سجن أبوغريب بينما السجانون الأميركيون يرفعون شارات النصر. من لا يرى من الجمل إلا أذنيه عليه أن يزور الطبيب ليتحقق من قوة إبصاره وبصيرته. فهل فكّر المصفّقون لهيلين في عدم وجود صحفي عربي يجاهر برأيه في نظام بلاده، ولا أريد القول بالوقوف في وجه النظام كما فعلت هي مع إدارة بوش الابن، إلا إذا كانت كل الأنظمة العربية أنظمة ديمقراطية تضمن حرية وكرامة المواطن ومن ثم لا حاجة إلى الوقوف في وجهها! هل خطر ببالهم أن صور فظائع الأميركيين التي أصبحت بمنزلة أيقونات لفضائح واشنطن، ما كانت لتصلهم لولا شجاعة مصورين أميركيين أو غربيين، وشجاعة المؤسسات الإعلامية التي تقف وراءهم؟ هل يعرفون مثلاً أن الذي سرّب صور أبوغريب، التي أحدثت ضجة عالمية، هو جندي أميركي وبثتها قناة أميركية؟ ألم يتساءلوا مثلاً عن عدم توفر صور لانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد العربية والسجون العربية؟ أين هي صور مآسي الحروب التي وقعت بين الدول العربية نفسها أو الانقلابات الدموية أو المجازر الجماعية أو قصف المدن أو الاغتيالات أو عمليات التعذيب؟ أين المصورون العرب، ووسائل الإعلام العربية، والجنود العرب، والسجّانون العرب، والقائمون على التعذيب من العرب ضد إخوانهم ومواطنيهم العرب؟ أين ضمائرهم والصور التي كان من المفترض أن يلتقطوها ويسرّبوها لكنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، ما دامت الأنظار وأصوات الغضب متجهة كلها إلى الغرب الإمبريالي؟ هل يعرفون مثلاً أن هيلين توماس التي كانت تجلس في الصف الأول في المؤتمرات التي يعقدها رؤساء أميركا منذ عهد كنيدي، هي ابنة مهاجر عربي من طرابلس؟ هل هناك صحفي عربي ذو أصول غير عربية يستطيع الاقتراب من السلطة في بلده ثم يتخصص في انتقادها مدافعاً عن وجهة نظر قومه؟ عندما سألوا هيلين عن زملائها المراسلين في البيت الأبيض قالت: أتمنى أن يستيقظوا من غيبوبتهم الجماعية العميقة هذه يوماً ما