"إنه علم النفس، ياغبي"... لم يحدث في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية، أن تعرضت عملية تعاف اقتصادي لما تتعرض له عملية التعافي الحالي من ضعف في الثقة. فعلى رغم أن كل ركود يترك وراءه بقايا من القلق وعدم اليقين، فإن البقايا الحالية استثنائية، لأن الركود ذاته كان شرساً علاوة على أن - وهذا هو الأهم - أسبابه الجذرية (الفقاعة العقارية، والأزمة المالية) لم تكن مألوفة. والناس الآن أصبحوا شديدي الحساسية لآخر الأخبار سواء كانت هذه الأخبار طيبة أو سيئة، لأن رؤيتهم للمستقبل باتت غائمة، كما باتت توقعاتهم كئيبة. فبعد أن قللوا من شأن المخاطر الاقتصادية خلال فترة الازدهار الاقتصادي، فإن ما يحدث الآن هو أنهم يبالغون بشأنها. ومن سوء الحظ أن الأفكار والمدركات قد تصبح قابلة للتحقق مع الوقت وهي حقيقة تصطرع معها إدارة أوباما باهتمام. فهذه الإدارة تستطيع أن تزعم أن سياساتها الاقتصادية هي التي وضعت حداً لتلك الحالة الشبيهة بالهيستريا التي كانت موجودة عامي 2008، و 2009 ... لكن الحقيقة أن ذلك النجاح كان جزئياً، وأن الحكومة لم تحصل على اعتراف بفضلها في تحقيقه. يتضح ذلك إذا عرفنا أن 23 في المئة فقط من الجمهور، تعتقد أن سياسات أوباما الاقتصادية هي التي أدت إلى تحسن الاقتصاد كما جاء في مسح أجرته مؤسسة بيو للأبحاث. على النقيض من ذلك نجد من واقع ذلك البحث أيضاً أن 29 في المئة من المبحوثين يعتقدون أن سياساته قد جعلت الأمور أسوأ، وأن 38 يعتقدون أنه لم يحدث فارقا يذكر، منذ أن تولى مهام منصبه. وسواء كنا مع هذه السياسات أو ضدها، فإن الواقع هو أن تلك السياسات لم تسترد الثقة في الاقتصاد. فالقرارات التي يتخذها الناس بشأن الإنفاق أو الادخار، أو استقطاب موظفين أو عاملين جدد أم الاستغناء عن خدمات هؤلاء الموجودين بخدمتهم تعكس حالة من التردد والتأرجح بين الأمل والخوف. صحيح أن الأمل والخوف يتبدلان، ولا يبقيان على حالهما، فيتغير الخوف إلى أمل والأمل إلى خوف حسب الظروف، إلا أن الظروف الحالية تدفع الجمهور للتشاؤم. ففي شهر مايو الماضي توقعت 56 في المئة من الأسر الأميركية أن تظل الرواتب ثابتة على حالها أو تتدهور خلال العام المقبل، كما تبين من نتائج بحوث أجرتها "جامعة ميتشجن" عن أنماط الاستهلاك لدى الأسر الأميركية. وقبل الركود الذي بدأ في بدايات عام 2007، توقعت 89 في المئة من الأسر الأميركية أن الدخول سترتفع أو تتساوى مع الغلاء خلال السنوات القادمة. وسوق العمل الضعيف يُعد سُماً نفسياً زعافاً، فليس هناك شك في أن أي واحد منا يعرف شخصاً تم الاستغناء عن خدماته، أو يعرف شخصاً يعرف أن شخصا ثالثا قد تم الاستغناء عن خدماته. ومعدل البطالة الذي يبلغ في الوقت الراهن 9.7 في المئة في شهر مايو الماضي، هو ثاني أكبر معدل بطالة بعد المعدل القياسي الذي وصلت إليه وهو ( 10.8 في المئة) في أواخر عام 1982. في سوق عمل مثل السوق الأميركي راهناً، هناك قاعدة، وهي أن من يفقد وظيفته لن يستطيع الحصول عليها مرة ثانية. وسوق الأوراق المالية هو الذي يصوغ السيكولوجية أو يحدد الحالة النفسية العامة، فكما يقول "مارك زاندي" في موقع "مودي إيكونومي كوم": إن اقتصادنا بات حساساً للغاية لسوق الأوراق المالية. فالأميركيون الأكثر ثراء والذين يشكلون 20 في المئة من إجمالي هذا الشعب يساهمون بـ60 في المئة من إجمالي الإنفاق كما يقول "زاندي". وهؤلاء الناس استثمروا بكثافة في السوق، مما كان يجعلهم يشعرون بأنهم باتو أكثر ثراء عندما يتحسن ذلك السوق، فينفقوا أكثر، ويوفروا أقل، والعكس صحيح. في عام 2007 هبط معدل إدخار تلك الفئة بشكل كبير إلى واحد في المئة فقط من صافي دخلهم، أما عندما هبط السوق، فإن ذلك المعدل ارتفع إلى 16 في المئة، في حين انخفض الإنفاق بشدة. وإذا نظرنا إلى تداعيات ما حدث خلال السنة الأخيرة، فسوف نجد أن التعافي الذي بدأ عام 2009 قد قلب الأوضاع مرة أخرى: فعندما شعر الأغنياء بأنهم قد أصبحوا أكثر ثراء عادوا مرة أخرى إلى الإنفاق أكثر والإدخار أقل، حيث هبطت مدخراتهم إلى 3.5 في المئة من دخولهم القابلة للصرف. على المنوال نفسه يمكن للانخفاض الأخير الذي شهدته الأسواق أن يضعف ذلك التعافي، ويقلب الأوضاع مجدداً فيزداد الإدخار، ويقل الإنفاق والاستهلاك. والخطورة تكمن في أن التشاؤم يقتات على نفسه، ويقود إلى ركود مزدوج (ركود يعقبه فترة من التعافي ثم ركود مرة أخرى). في مثل هذه الحالة لا تقوم الشركات بتعيين موظفين جدد لأنها تخشى من تردد المستهلكين في الإنفاق. وهذا التردد بدوره مرجعه الخوف من أن الشركات لن تعين موظفين جدد بل وقد تستغني عن موظفيها وهكذا. احتمال حدوث ركود مزدوج يعد ضعيفاً في الوقت الراهن، واستعانة الشركات بعاملين جدد قد بدأت مجدداً، وأن البضائع والسلع الراكدة في المخازن قد نفذت، وأن النمو القوي في الصين والبرازيل والهند قد عزز الصادرات الأميركية، وهي أمور يمكن لها كلها أن تحسن الحالة النفسية وبالتالي الثقة، إلا أن الخبراء والمختصين يخشون من حدوث ركود جديد، وهو ما سيشهد في حالة حدوثه إلى المستوى المنخفض من الثقة السائد في الأسواق في الوقت الراهن. ورطانة إدارة أوباما المناوئة للأسواق والإصلاح الصحي المثير للجدل، ربما يكونا قد ساهما في مفاقمة هذا النوع من ضعف الثقة. فهذه السياسات خلقت حالة من عدم اليقين، وأججت الضغائن الحزبية. وفي حالة برنامج الرعاية الصحية، فإن ذلك البرنامج قد رفع من حجم الأعباء التي ستتحملها الشركات والمؤسسات عند تعيينها لموظفين متفرغين. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"