كأس العالم، المقامة حالياً بجنوب إفريقيا، هي ظاهرة عالمية تحدث كل أربع سنوات. واليوم هي المشترك بين كل الناس ولمدة شهر كامل. وبسببها سينسى الناس كل الأحداث غير الرياضية، ونتائج مبارياتها، وتحليلاتها، والخلافات بين قناة "الجزيرة" -صاحبة حق البث الحصري- وبقية القنوات الرياضية الأخرى بسبب التشويش. ودخلت على "الخط" معهم جمعية حماية المستهلك في الإمارات لاسترداد حقوق المشاهدين. وأنعشت البطولة ومنذ انطلاقتها العديد من الأحداث التجارية والسياسية في العالم؛ فقد أحيت بعضاً من توترات العلاقات العربية التقليدية واتهامات من يشوش على "مين"! كما أنعشت سوق البطاقات وتجارة فك شفرة الرسيرفرات "الحرامي". وسمحت لأصحاب المقاهي بأن يرفعوا سعر "الشيشة" والطلبيات، ودفعت بأصحاب الأعمدة اليومية إلى أن يكتبوا فيها؛ لأن من يبتعد عنها كأنه "يغرد خارج السرب". ولم يعد هناك من يتحدث عن العقوبات "الذكية" ضد إيران التي جاءت في وقت "غير ذكي"، ولا هناك من يقرأ عن مطاردة إسرائيل "لقوافل الحرية" وما تفعله بها، ولا ما يفعله الإسلاميون المتطرفون في الصومال، ولا الخلاف بين علاوي والمالكي، ولا ما ينسب إلى الأجهزة الأمنية المصرية من ممارسات بحق مواطنيها. الكل مركز فقط على من يلعب اليوم. وفي ظل زحمة المونديال، حدث "صعود ناعم" للمرأة، حيث سجلت رقماً جديداً في نسبة عدد المشجعات في كرة القدم، أحد معاقل الرجال، على مستوى العالم، ووصلت نسبتها إلى 38 بالمئة والمرأة الجنوب الأفريقية 62 بالمئة؛ مما يعني الكثير بالنسبة للمستثمرين ورجال الأعمال الموجودين في جنوب إفريقيا حالياً، ومؤشراً خطيراً للسيطرة الذكورية. أما عندنا في دولة الإمارات وفي السعودية وبريطانيا، فقد انتشرت المخاوف من ازدياد مخاطر تعرض الأسر للخلافات والمشاجرات، حيث سجلت دراسة إماراتية أُجريت على 300 زوج وزوجة أن حالات الطلاق وصلت في المونديال السابق إلى 47%، وهو مؤشر مهم للتأثير السلبي للمباريات على استقرار الحياة الزوجية. وهناك اتفاق بأن منتخب "أمة نلسون مانديلا"، لن يفوز بالكأس، ويكفي بلد منتخب "البفانا بفانا" شرف الاستضافة. جنوب إفريقيا فازت بأشياء أخرى مهمة؛ فالمناسبة أكدت الالتحام الوطني بين السود والبيض لشعب عاني التمييز العنصري لفترة زمنية طويلة، وكاد يعود إليها "لولا أصحاب العقول" قبل أشهر عندما تم اغتيال "يوجين تيربلانش"، زعيم اليمين المتطرف من البيض، على أيدي شابين من السود. كما أن هذه الاستضافة تمثل بداية استعراض للقدرات الاقتصادية والسياحية في بلد لا يعرف الناس عنه سوى ارتفاع نسبة الجريمة، ويتوقع أن يستقبل حوالي 1.1 مليون سائح خلال شهر المونديال. كرة القدم اليوم ليست مضيعة للوقت ولا مجالاً للسخرية والتهكم والدونية، بل ان المثقفين والسياسيين باتوا يحسدون الرياضيين على حجم الاهتمام الشعبي الذي يلاقونه بسببها، بل إن البعض تمنوا لو ذهبوا إلى ملاعب كرة القدم بدلاً من الجامعات والمعاهد وسهر الليالي. والرياضة حالها اليوم في "المجتمع الإنساني" مثل حال أي إبداع علمي، ولاعب كرة القدم لا يقل أهمية في المجتمع عن الفيلسوف والطبيب والمهندس. وهي إحدى طرق "العدالة الاجتماعية" التي تسمح لأبناء الطبقات الفقيرة بمنافسة الفنانين والسياسيين، وبتحقيق صعود لمجتمعاتهم ومجداً شخصياً لهم، والانتقال من مستوى اجتماعي معين إلى آخر أفضل. كل واحد منا ينظر إلى مونديال كأس العالم وفق زاويته ومنظوره؛ فلم تعد المسابقة ترفيهاً وتسلية، ولم تعد مناسبة لنقاشات الأسر وتجمعها، فذلك الزمن أصبح من الماضي. محمد خلفان الصوافي sowafi@hotmail.com