لا أخفي اقتباس العنوان من حسن العلوي "شيعة السُّلطة وشيعة العراق"، والعلوي سيرأس الجلسة الأولى للبرلمان، كونه "عمّ" الجميع، الأكبر سناً، إذا لم يعترضه عارض. وأكبر البرلمانيين سناً صاحب قلم سيال، وينبوع أَفكار، وناثر متفوق، ونساج ماهر للكلام، لجزالة ألفاظه في الكتابة، طبعاً، يشمله قول ثمامة بن أشرس المعتزلي (نحو215 هـ): "ما أثرته الأقلام لم تطمع في درسه الأيام "(ابن عبد رَّبه، العقد الفريد). غير أننا لا ندافع عن انفعالاته في هذا الكتاب، مع أن العنوان جاء معبراً عن الحال. أكتب لا ناقماً ولا حاقداً بل صارخاً منبهاً لهول الخسارة، وسوء المآل، ووحشة الدار لكثرة الهاجرين؛ لعلَّ هناك روحاً يخفق، وينتصر لهذه البلاد المهددة بالتشظي، وأي البلدان! إنها العِراق، اسمها يشبع الجائع، وصيتها يسبق أهلها في الآفاق. فمن غابر الزَّمان قال في خيرها الوفير زُهير بن أَبي سُلمى (ت 609 ميلادية) في معلقته: "فَتُغْلِلْ لكُ ما لا تُغِلُّ لأَهْلِها.. قُرَى بالعِراقِ مِنْ قَفيزٍ وَدِرْهَمِ" (الزوزني، المعلقات السبع). بعد هذا، كان الأَمل بشخصيات من شيعة السُّلطة أن تبقى أمينة لما ادعته في خلق حالة وطنية لهذه البلاد، وما عبرت عنه في محافلها الإعلامية بأنها بيت الداء، ووراء عرقلة الإعمار، وراء تحالف الفساد والجهل، وتسييس القضاء، وتبوؤ القاصرين المناصب الخطيرة، ولعب الجوار بمقدرات البلاد من حرب الفلوجة وحتى الساعة. للأسف، لقد تنكرت تلك الشَّخصيات لخطابها الانتخابي، فما أن شعرت بالخطر على السُّلطة تداعت بحمية لتشكل الائتلاف الشيعي من جديد، وهذه المرة تحت اسم "الائتلاف الوطني"، وهو مجرد لعب بالألفاظ، بينما الحقيقة هي الإصرار على المضي بإشادة البيت الشَّيعي، لكنه بيت السُّلطة لا الشَّيعة! مع إيجاد شخصيات صورية لتبرير الاسم "الإتلاف الوطني"! من قبل، كان التَّسلط باسم الأمة والعروبة وفلسطين، حتى ضجر العراقيون من قضية الأمة المركزية، فالمظالم عليهم تكاثرت بينما القضية أخذت تتلاشى، وأخذ النَّاس لا يكترثون بسماع النَّغمة. أما الحاضرون، فوجدوا في حق الشَّيعة نغمة لإطراب الشَّيعة، فممَنْ عاد وتسلط، أول خطوة كانت له، إعادة أموال أهله، هذا أعاد الأرض، مع تشييد مَضيفة، دلالة على الجاه الجديد. وآخر عاد واستولى على القديم والجديد، من نوادٍ وأرضٍ وبساتين، من دون حساب ما تسلمه أهله من تعويضات، وآخرون عادوا واستولوا على أراضٍ كانت مراتع للسابقين. فما الفرق إذن، وعلام سالت الدماء، وجُيشت الجيوش، أهو تبديل سلطة بسلطة، وهيمنة بهيمنة! إنها ليست المرة الأولى، خلاف ما يتقوله الجاهلون بالتاريخ والساعون لتجهيل النَّاس، أن يأخذ الشَّيعة السُّلطة، لكن في كلُّ أدوارها ظلت شيعة السُّلطة لا شيعة البلاد، كذلك الحال بالنَّسبة للسُّلطة السُّنَّية لا تعني سُنَّة البلاد إنما تعني شخوصها، ومن أجل وجودها تلهج بسُنَّيتها صباح مساء. يا أهل الألباب إن سلطة الطَّائفة أكذوبة، كانت الدولة الصفوية (1501 -1723) تُقدم الشَّيعة ذبائح في حروبها مثلما كانت الدولة العثمانية (حتى 1924) تُقدم السُّنَّة قرابين لسلاطينها، ومثلهما السُّلطات القومية كافة. فهل مثلت سلطة البويهيين بالعراق (320- 447هـ) شيعته، وإذا كان الأمر كذلك فما معنى الحروب بين دولة الحمدانيين الشَّيعة بالموصل (317 -394 هـ) ضد البويهيين الشَّيعة ببغداد. وما معنى حرب إمارة عمران بن شاهين الشيعية بأهوار جنوب العراق ضد البويهيين ببغداد، حرب استمرت واحداً وثلاثين سنةً (338 -369 هـ)! جاء في وفاة ابن شاهين: "طلبه الملوك والخلفاء، وبذلوا الجهد في أخذه، وأعملوا الحيل أربعين سنة، فلم يقدرهم الله عليه، ومات حتف أنفه، بعد أن أَذل الجبابرة، وأَرباب الدَّول، وطواهم أولاً بأَول" (مسكويه، تجارب الأمم). فمَن منهما مثلت الشيعة الطائفة! أما الدول التي أدعت أنها سُنَّية، فالحديث عنها يطول. إن الحديث عن دول سُنيَّة وأخرى شيعية أضاحيك وأكاذيب، بل هناك سلطات تتلفع عباءة الطَّائفة أو المذهب، فسلطة الشَّيعة اليوم، الذين طوروا اسم ائتلافهم من الشَّيعي إلى الوطني، وهو في جوهره خاص بالإسلام السَّياسي الشَّيعي لا بشيعة العراق، تضع في ائتلافها هذا الوطن خارج قوس، وتحاول تكريس ما هلكت وستهلك به دولة لبنان، من تقاسم طائفي، باسم الأكثرية والأقلية. لم تكن خطبة إمام الجمعة بالحضرة العلوية بالنَّجف (29 أيار 2009)، التي أكد فيها على حكم الطَّائفة "لأن الشَّيعة يمثلون الأغلبية بالعراق ويجب الدِّفاع عن هذا الحق"، إلا تعبيراً عن توجهه السَّياسي لا الشَّيعي، وكان دفاعاً عن سلطة الشَّيعة لا شيعة العراق. ولولا ردِّ المرجعية الدينية، الأكثر عراقية من فقهاء الإسلام السياسي، لخطبوا بها على أعواد المنابر في الدعاية الانتخابية! لكن، مَنْ هم الشَّيعة عند خطيب الحضرة العلوية! هل هم: حسن العلوي، أو أياد علاوي، أو كنعان مكية، أو علي علاوي، أو ضياء الشكرجي، أو حسين الصدر، أو حسين الشعلان! كل هؤلاء لم يدخلوا في مفهوم سلطة الشَّيعة عند خطيب الحضرة؛ لأنهم ليسوا من إسلامه السياسي، الرافع لراية لاهوت السياسية على رؤوس شيعة العراق. في المقابلة بين الشّيعتين: لدى سلطة الشَّيعة وفرة الماء، وفائض الكهرباء، وفراهة القصور، ومنعة الحمايات، وطبابة الخارج، وسخاء المعاشات، وهم ورثة كل ما استخدمته السُّلطة السُنَّية، حسب تصنيفهم للنِّظام السابق، من أدوات ووسائل. بالمقابل، يحفر شيعة العراق الأرض بحثاً عن ماء، ويترجون ساعة من الكهرباء، ويتكدسون في بيوت محلاتهم ومدنهم، ويتعرضون للموت الجماعي، وتقتلهم الأدوية الفاسدة، وتعصف بشبابهم البطالة! أرى الإسلام السياسي يؤصل، في ائتلافه الجديد، لنظام المحاصصة المؤذي، بل إن المحاصصة في داخله لتشكيل الوزارة لا تُبشر بحل أزمة، فهو تعامل طوال وجوده في الحكم بأداء المعارضة السابقة لا السُّلطة الحاضرة المنتخبة، مثلما هو نظام الحكم المعلن! وأظهر شخوصه دعواتهم وتأكيداتهم على دولة المواطنة ووزارة أهل الخبرة والمعرفة، أنها مجرد أضاحيك. ما بين شيعة السُّلطة وشيعة العراق صراع أجناس! على حدِّ عبارة أكبر البرلمانيين سنَّاً، وعساه لا ينقلب على عبارته، وهو عضو في سلطة العراق التشريعية. يتأمل شيعة العراق وسُنَّته، وأهل العراق كافة، وزارةً عجز ائتلاف شيعة السُّلطة عن تقديمها، يناشدونها بلسان محمد صالح بحر العلوم (ت 1992): "فتداركي الخطر الذي مِنْ شرَّه... سيكون مقتبل البلاد مهددا" (الخاقاني، شعراء الغري).