في خطاب ألقاه الرئيس عباس في معهد "بروكينجز" الأميركي يوم الخميس الماضي حذر من أن حل الدولتين "بدأ يتآكل" مشدداً على أن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة في عملية السلام لن يتم قبل قبول نتنياهو "تفاهمات أنابوليس" بشأن الأمن والحدود. تذكرت أن الشرط الرئيسي الفلسطيني السابق لاستئناف المفاوضات المباشرة كان وقف الاستيطان. لم يوضح الرئيس الفلسطيني شيئاً بخصوص مضمون هذه التفاهمات فيما يتعلق بالحدود، لكنه قال بالنسبة للأمن إن "الاتفاق الذي انبثق عن أنابوليس، هو أننا لا نمانع في أن يكون هناك طرف ثالث على الأراضي الفلسطينية لغايات معينة لتدريب قوة الشرطة الفلسطينية الوارد نصها في اتفاق أوسلو، وبشكل يعطي الطمأنينة للطرف الإسرائيلي"، وأشار إلى أنه تم اقتراح مشاركة قوات حلف شمال الأطلسي. أي أنه لا مانع من استبدال سيطرة قوات دولية بالاحتلال الإسرائيلي مع أن حلف الأطلسي موجود بقضه وقضيضه في أفغانستان دون أن يكون في مقدوره أن يفعل شيئاً، ومع أننا نحن الذين نحتاج إلى الطمأنينة وليست إسرائيل. أحسست بأن الأمور قد اختلطت عليّ كثيراً، لأن معلوماتي عن مؤتمر أنابوليس 2008 ونتائجه كارثية. شككت في ذاكرتي وعدت إلى أوراقي لأقطع الشك باليقين. ومؤتمر أنابوليس لمن لا يتذكره عقد في مدينة أنابوليس الأميركية بدعوة من بوش، الذي وجه الدعوة في يوليو 2007، وعقد المؤتمر في نوفمبر من العام نفسه. وتمثل طرح الرئيس الأميركي حينها في أن إدارته مستعدة لإدارة مفاوضات جدية تضمن دولة فلسطينية ذات حدود متصلة وقابلة للحياة، وأن "تتعامل" مع قضية القدس ووضع اللاجئين، ولكي يحدث هذا طالب الفلسطينيين بـ"نبذ الإرهاب"، و"وقف الاعتداءات" على إسرائيل، وإن كان للأمانة قد اعترض على نحو غير مباشر على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. أطلق بوش مبادرته في أسوأ توقيت ممكن، فكل الأطراف المعنية كانت مأزومة: هو نفسه في العراق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي (أولمرت آنذاك) في أَضعف حالاته بعد إدانته بالتقصير في عدوانه على لبنان في 2006، والانقسام الجغرافي بقوة السلاح أصاب الفصيلين الرئيسيين في فلسطين "فتح" و"حماس" في الشهر السابق على خطاب بوش، أما الدول العربية فقد قبلت من خلال اجتماع المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية في سبتمبر 2007 مبادرة بوش، لكنها اشترطت حضور كافة الأطراف المعنية وهي فلسطين وسوريا ولبنان كي يمكن إدارة مفاوضات شاملة حول الصراع ككل. ولم تجد الإدارة الأميركية حرجاً في أن تقبل هذا الشرط، لكنها التفت عليه ببحث المؤتمر قضايا المسار الفلسطيني- الإسرائيلي فحسب، أما من أراد أن يثير ما يشاء من قضايا ومطالب من فوق منبر المؤتمر فله ذلك شريطة أن يدرك سلفاً أن العائد الوحيد المحتمل لما يقوله هو أن يرتد صدى صوته إليه. لأن الهدف هو أن يكون "النجاح" في المسار الفلسطيني- الإسرائيلي نقطة انطلاق للنجاح في تسوية الصراع ككل. الأكثر إثارة من ذلك أن أولمرت أصر على أن ينتهي المؤتمر إلى "إعلان مبادئ" أو "إعلان مصالح مشترك"، أي أنه بفرض وجود مفاوضات فإنها لن تتم في المؤتمر وإنما بناءً على نتائجه، ولم يكن أولمرت يستطيع أن يقدم أكثر من العموميات بسبب التردي المتزايد في وضعه السياسي الداخلي، بل إن الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي قد اتفقا في لقاء لهما في أكتوبر 2007 على أن يقر المؤتمر "وثيقة مشتركة" تشكل أساساً للمفاوضات "بعد" المؤتمر. ومع ذلك تحدث البعض عن "فرصة تاريخية" يحملها المؤتمر معه، فلنحاول أن نحدد أبعاد ما أفضت إليه هذه "الفرصة التاريخية" على ضوء نتائج المؤتمر. سعد البعض حينذاك كثيراً بأن المؤتمر توصل إلى وثيقة مشتركة تدعو إلى مفاوضات "فورية" تناقش كل قضايا الوضع النهائي بمشاركة أميركية كثيفة ولجان متابعة، وكان على هؤلاء السعداء أن يرجعوا إلى محاولات التسوية الفاشلة منذ إطار كامب ديفيد 1978 واتـفاق أوسلو 1993 وخريطة الطريق 2002 ليكتشفوا أن المصطلحات ذاتها قد استخدمت -ربما بلهجة أكثر وضوحاً وتشدداً- منذ ذلك الوقت وحتى انعقاد مؤتمر أنابوليس، أي طيلة ما يقترب من ثلث قرن. وأضاف أولئك السعداء أن التقدم الذي حدث في أنابوليس يعود إلى الإطار الزمني الصارم الذي أتى به، فقد وضع نهاية 2008 كموعد للحل النهائي، ولم يكن هذا الإطار الزمني "الصارم" يدعو إلى السعادة في شيء وإنما هو مدعاة للرثاء، فليس هناك أكثر من الأطر الزمنية الصارمة في عملية التسوية، فوفقاً لإطار كامب ديفيد 1978 كان المفترض أن يجيء الحل النهائي في 1983، ووفقاً لاتفاق أوسلو كان موعده يحل في 1999، وتصورت خريطة الطريق مساراً يأتي بحل في 2005، لكن هذا كله لم يحدث، وإن كان مؤتمر أنابوليس قد تميز بشيء آنذاك فهو غفلة أشد، حيث تخيل أن صراعاً معقداً كالصراع العربي- الإسرائيلي يتجاوز القرن عمراً يمكن أن يحل في سنة، وعلى أية حال فقد أراحنا رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك من التفكير في الموضوع وأدلى بعد ساعات من انتهاء المؤتمر بتصريحات لإحدى الإذاعات الأميركية نسف فيها التزامه بإطار زمني أصلاً، ناهيك عن استبعاده الحرم القدسي -وليس حتى مستقبل القدس الشرقية- من النقاش، وتأكيده على استحالة التوصل إلى اتفاق قبل تفكيك "بنية الإرهاب" الفلسطيني، أي القضاء على المقاومة الفلسطينية. يبقى احتمال وحيد وهو أن يكون "مؤتمر أنابوليس" قد توصل إلى تفاهمات سرية، وهو أمر ليس بمقدوري تأكيده أو نفيه، وبفرض وجودها فإن حديث الرئيس الفلسطيني يعني أنها لم تنفذ آنذاك فهل تنفذ في ظل حكومة كحكومة نتنياهو؟ وإذا كانت إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقات التي وقعت عليها كأوسلو فهل تلتزم بـ"تفاهم" سري؟ ثم إن خبرتنا معها ليست خافية فيما يتعلق بـ"وديعة رابين" التي كانت مجرد تفاهمات لم يلتزم بها أي رئيس وزراء إسرائيلي لاحق بعد اغتيال رابين. ثم إن أي تفاهمات لا نعلم بها ويمكن أن يكون مؤتمر أنابوليس قد توصل إليها لا يمكن أن تخرج عن الخطوط العامة المعروفة للسياسة الإسرائيلية، فلم إذن الاستنجاد بها؟ منذ عقود بُحّت أصوات المتابعين لما يسمى بعملية التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي والمخلصين للحقوق الفلسطينية والعربية من التنبيه إلى أن نهج التسوية المتبع عربيّاً وفلسطينيّاً ضد إسرائيل عقيم، ولا بأس من استمراره إذا كان بعض الرسميين العرب يتحسب من غضبة القوى الفاعلة في النظام العالمي علينا إن فكرنا في تغيير نهجنا السلمي. غير أنه يجب أن يكون واضحاً أن هذا هو الهدف الوحيد للاستمرار في هذا النهج. أما أن يتصور البعض أنه يمكن أن يفضي بنا إلى نتيجة فهذا هو الوهم بعينه، سواء على ضوء حقائق ميزان القوى الراهن بين العرب والإسرائيليين، أو على ضوء ما أكدته خبرة المفاوضات الماضية عبر العقود. وإذا كنا نجفل الآن من الحديث عن المقاومة أو نتحسب لتداعياتها فلننظر فيما أحدثه عشرات النشطاء في "أسطول الحرية" من خلال عمل سلمي محض من خلخلة يعتد بها في وضع إسرائيل الإقليمي والدولي. أتراه لم يحن الحين بعد لكي نفكر في استراتيجية للنضال بدلاً من استراتيجية السراب؟