يحمل الفصل الثالث في كتاب أو بيان (مانيفستو) "المشروع النهضوي العربي" الذي يقدم الرؤية القومية الراهنة لأزمة ثم نهضة العرب عنوان "الوحدة" ويتحدث عن ضرورتها الوجودية. ويعلن في مقدمة الفصل أن "قضية الأمة العربية منذ ميلاد الوعي القومي المُشتبك مع حركة التتريك وإلى حد الآن هي تحقيق التوحيد القومي". ويؤكد النص على مركزية الوحدة العربية بشكل قاطع لا لبس فيه لأنه "لا نهضة للأمة من دون وحدتها القومية"، مستطرداً "إن الوحدة ضرورة حيوية ووجودية للأمة العربية... ليس فقط لأننا أمة لها عوامل توحيدية من مواريث تاريخها، بل أيضاً لأننا نحتاج إليها من أجل التنمية ورفع مستوى المعيشة للمواطن، ومن أجل حماية الشعب والدفاع عن الوجود القومي والمصالح المشروعة، خاصة في عالم تتزايد فيه التكتلات الكبيرة كضرورة للمنافسة والبقاء". ويشير "المشروع النهضوي العربي" أيضاً إلى تاريخ الفشل في تحقيق الوحدة العربية المنشودة، سواء بين الأقطار العربية مجتمعة، أو على مستوى ثنائي (تجربة الوحدة المصرية- السورية في الستينيات)، أو على مستوى التجمعات الإقليمية الشاملة (مثل الجامعة العربية) أو الجزئية (مثل اتحاد المغرب العربي، أو مجلس التعاون الخليجي، أو مجلس التعاون العربي). ولا يتوقف النص كثيراً عند أسباب ذلك الفشل، كما لا يتطرق لمحاولات فرض الوحدة بالقوة على طريقة صدام حسين، ولكنه يقر بأن مياهاً كثيرة جرت تحت جسور العرب والعالم، وتحولات كبرى وقعت تفرض "الحاجة إلى إعادة وعي مسألة الوحدة في ضوء معطياتها وتحدياتها، واشتقاق الصيغ والأساليب المناسبة لتحقيقها". وفي مكان آخر يعيد النص التأكيد على منطلق الاستفادة من تجارب الإخفاق الماضية، واستيعاب التحولات الكونية التي تفرض نفسها على العرب كما غيرهم بما يفترض "إعادة صوغ مطلب الوحدة في ضوء دروس الماضي ومتطلبات المستقبل، وذلك من خلال تجاوز الأسباب الذاتية التي أعاقت المشروع القومي الوحدوي على أسس صحية وواقعية". والتأكيد المستمر على ضرورة إعادة النظر في مسألة الوحدة استناداً إلى دروس الماضي وتحولات الحاضر مدخل متوقع ومقدر في آن معاً، ولا مناص منه بطبيعة الحال، ويفرض نفسه كأداة تحليلية لمضمون الطرح الذي يحمله فصل "الوحدة" في المشروع النهضوي العربي. وبمعنى آخر سيتم التأمل في أفكار وافتراضات وسيناريوهات "الوحدة" كما ترد في النص من منظور تطبيق أو عدم تطبيق مدخل "الاستفادة من دروس الماضي" و"استيعاب التحولات الكونية". وهذا سيقودنا إلى معرفة ما إن كان النص الوحدوي العربي يعيد إنتاج ذاته الغائية والمتجاوزة التي نعرفها منذ الخمسينيات والستينيات، أو أنه يطرح صيغة جديدة كليّاً، عملية وواقعية، وتتواءم مع التغيرات والتحولات. إن أحد دروس الماضي القريب والمرير بشأن الوحدة العربية يشير إلى ضرورة التخفف من الرطانة واللفظية ذات النبرة العالية لما تحمله من طاقة تخويفية من ناحية، ولما تثيره أيضاً من عدم واقعية. وإحدى مفردات ذلك التخفف هي الكف عن استخدام لفظة الوحدة العربية والتعويض عنه بالتعاون الإقليمي العربي، أو الاتحاد الفيدرالي العربي، أو سوى ذلك. فتعبير الوحدة العربية يعني مباشرة الوحدة الاندماجية والتخلي عن السيادات وهما أمران يضربان في جوهر النظام العربي القائم على فكرة الدولة السيادية الحديثة. أي أن يكون الهدف شكلاً من أشكال التوحد بين الكيانات السياسية هو تطور طبيعي تفرضه الظروف والمصالح، لا الأيديولوجيا والإرادوية. وكلما اقترب الفكر القومي أو أي فكر آخر من الصيغة الأولى لإدراك التطور، وابتعد عن الثانية -أي عن رسم النهايات المثالية لواقع هش، فسيلقى استقبالا أفضل لدى الشرائح التي يستهدفها. والدرس الثاني الذي لا يخفى على من صاغوا المشروع النهضوي العربي هو تكرس مبدأ السيادة الوطنية- القُطرية وشبه استحالة تجاوزه، وتعمق شبكة العلاقات القُطرية العربية مع دول العالم، وخاصة القوى الكبرى، على قاعدة السيادة والاستقلال القُطري، بما يوفر لهذه السيادات حماية دولية وأممية تتجاوز نطاق العرب والعروبة. وقد تفاقم هذا مع واقع الضعف والإنهاك المتواصل لما يمكن أن يعتبر رؤى مشتركة حقيقية وليس مجاملاتية بين النخب العربية، سواء أكانت سياسية أو غيرها، أو تبلور أهداف اقتصادية وتنموية متناغمة، أو مقاربات ثقافية وحتى دينية متقاربة. وهكذا تتفاوت الأهداف السياسية، وطبيعة التحالفات الاستراتيجية التي تقوم عليها، بين الدول العربية، وهو تفاوت مشهود منذ بداية عصر الاستقلال. ولكن صمود ذلك التفاوت نقله بثبات وترسخ إلى الشعوب العربية التي أصبحت بعد عقود طويلة من ذلك الاستقلال على غير ما كانته في بدايات "الوعي القومي". ولا يستطيع أحد الزعم بأن الخلافات السياسية وأنماط التحالفات الاستراتيجية والاقتصادية المتناقضة التي تتبناها الأنظمة العربية محصورة فقط في دوائر النخب الحاكمة. بل إن الأمر في حقيقة اختلافاته القُطرية يشمل النخب الاقتصادية والفكرية والإعلامية والمزاج الشعبي. لقد تكرست "قُطرية" ما بعد الاستقلال خلال عقود طويلة، وتعمقت. صحيح أن هناك وجداناً عربيّاً مشتركاً يبرز على السطح في المناسبات الكبرى، خاصة الكارثية، على شكل تضامن عاطفي، لكن هذه المشاعر العاطفية تتوقف عند حدودها الخاصة بها، واستمرار تضخيم اعتبارها عاملا مؤشراً على الوحدة العربية يعد كارثة إبستمولوجية لم تستفد من "دروس الماضي، وتحولات الحاضر". فالحساسيات المتبادلة بين الشعوب العربية، ومرة أخرى ليس بين النخب الحاكمة فقط، تصل في أحايين كثيرة إلى أمدية مدمرة وقد تنتج عن قضايا سخيفة (انظر مثلا تطور الحساسية المصرية- الجزائرية بسبب كرة القدم). ويمضي "المشروع النهضوي العربي" مؤكداً: "لا تكون الوحدة هدفاً مطلوباً لدى الأمة إلا متى وجدت هذه مصلحتها فيها. فحين تكون الوحدة إطاراً لتحقيق السوق القومي، وتعظيم الثروة، وتحسين شروط المعيشة للمواطن، وتوفير الحقوق المدنية والسياسية وكفالتها، وتحقيق المشاركة السياسية، وتوزيع الثروة توزيعاً عادلا بين الطبقات والفئات والمناطق، وتعزيز الأمن القومي... تكون حينها قد قدمت جواباً على معضلات المجتمع العربي، وتكرست هدفاً تناضل من أجله الأمة جمعاء". وهذا الإقرار ربما كان هو الأهم والأدق موضوعيّاً ومن ناحية التحليل السوسيولوجي والسياسي، ويبتعد عن المثالية والإرادوية التي وسمت أجزاء أخرى من فصل "الوحدة" في النص. فالوحدة تكون مطلوبة إن حققت أهدافاً ومصالح ملموسة على الأرض شعر بها الأفراد، وطالبوا بها لأنها تحقق لهم تلك الأهداف والمصالح. وهذا كله مرتبط بطبيعة الحال بشرط تكويني شارط لأية عملية وحدوية هو الديمقراطية وقيام تلك الوحدة على الرغبة الشعبية، عن طريق الاستفتاء. ومن المهم هنا الإشارة بأن هذا الشرط الأخير، شرط الرغبة الشعبية ودور ورأي الشعوب العربية في الوحدة المنشودة يبرزه "المشروع النهضوي العربي" بشكل جلي وقاطع. وهذا تطور كبير وإيجابي يترك خلفه أية طروحات أو احتمالات بقيام تلك القوة أو أجزاء منها بالقوة والفرض القسري. يقول النص في تأكيده على هذه النقطة "لكن الوحدة التي نتطلع إليها... لا يمكن إلا أن تقترن بالديمقراطية من وجهين: من حيث تقوم بواسطة الرضا الشعبي، ومن خلال الاختيار الحر الديمقراطي (عبر الاقتراع أو الاستفتاء)، فلا تأتي بصورة فوقية أو انقلابية أو عن طريق الإلحاق القسري، ثم من حيث تنطوي في تكوينها على مضمون ديمقراطي تقوم فيه المؤسسات الدستورية المنتخبة مقام الفرد، الزعيم".