عليك أن تتخيل نظاماً سياسيّاً شديد الاستقطاب، وتتحكم فيه أحزاب متمرسة وعنيدة في مواقفها ومعارضتها لسياسات بعضها بعضاً من جانب، وجمهور عام مغلوب على أمره. هل هذا هو حال نظامنا السياسي هنا في الولايات المتحدة؟ وفي بريطانيا أيضاً؟ الإجابة: "نعم" في كلتا الحالتين، مع إضافة أن الانتخابات العامة التي جرت في بريطانيا مؤخراً وضعت حدّاً لذلك النظام بتنصيبها حكومة ائتلاف حزبي جديدة. والحقيقة أن الجزء الأعظم من التجربة الديمقراطية الأميركية يقوم على تراثنا السياسي المشترك مع بريطانيا. وعليه فإنه ينبغي لنا التطلع إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي كي نتمكن من معالجة علل نظامنا السياسي. وينبغي أن يبدأ هذا التطلع بالنظر إلى ما شهدته بريطانيا في انتخابات الشهر الماضي. فلم يكن التحالف الحكومي الجديد الذي جمع بين المحافظين والديمقراطيين الأحرار نتيجة لنظام برلماني يسمح بإقامة مثل هذه التحالفات. والحقيقة أن النظام البرلماني البريطاني القائم على مبدأ الحكم بالأغلبية في الأساس، يجعل من إقامة هذه التحالفات أمراً لا ضرورة له إن لم يكن مستحيلاً أصلاً. وخلافاً لكافة التوقعات السابقة لإجراء الانتخابات، فإن جمهور الناخبين الغاضب لم يكن هو الذي قرر هذه النتيجة. بل الحقيقة هي أن النتيجة الملتبسة التي أسفرت عنها الانتخابات -حيث لم تصل نسبة التأييد الشعبي لحزب العمال الحاكم حينها إلى 30 في المئة، بينما فشل حزب المحافظين المنافس له في تحقيق أغلبية برلمانية، الأمر الذي مكن حزب الديمقراطيين الأحرار الصاعد من تحقيق نسبة مئوية واحدة في الانتخابات الأخيرة تفوق تلك التي حصل عليها في الانتخابات العامة السابقة. بل ينبغي القول إن الديمقراطيين الأحرار خسروا عمليّاً خمسة من مقاعدهم البرلمانية. والسؤال الآن: هل في هذه النتائج ما يشير إلى "تغيير سياسي" كان قد تنبأ به كثيرون قبل تلك الانتخابات؟ إن التغيير السياسي لم يأت نتيجة للانتخابات البريطانية الأخيرة، وإنما جاء بسبب القيادة السياسية. ذلك أن زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون -الذي يتولى حاليّاً منصب رئيس الوزراء- ووزير ماليته جورج أوزبورن، وكذلك زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، تمكنوا من قراءة الواقع السياسي لبلادهم ورؤية ما يمكن عمله وفقاً لمعطيات الخريطة، فقرروا المغامرة بمصيرهم السياسي فيما رأوا فيه فرصة يجب على بلادهم أن تستثمرها. هذا وقد أبدى كثير من ناشطي كلا الحزبين المتحالفين عدم رضاهم عن التنازلات التي قدمها الطرفان عن مبادراتهما ومواقفهما السياسية السابقة للانتخابات. غير أن قيادة كلا الحزبين اتخذت من القرارات والمواقف ما جعل منها شيئاً فريداً في الممارسة السياسية البريطانية الحديثة. والمقصود بذلك ممارستها لدور "القيادة" في الأساس. فقد تمكنت قيادات كلا الحزبين من فرض التغيير على كافة مستويات الحزب على أساس التوصل إلى ما هو مشترك بين الحزبين. فعلى سبيل المثال أعلن "كليج" والبيان السياسي الذي أصدره حزب الديمقراطيين الأحرار معارضتهما للخفض المباشر للموازنة العامة. وكان كاميرون قد خاض سباقه الانتخابي على خلفية الوعد بخفض ضريبة الميراث ودافع عن هذه السياسة طوال المناظرات السياسية التي أجريت قبيل الانتخابات. غير أن كليهما تنازل عن تلك المواقف والسياسات عقب تشكيل الائتلاف الحكومي الحالي الذي جمع بينهما. ولم تكن هذه التنازلات عن المبادئ سهلة في سبيل جني مكاسب الإمساك بمقاليد السلطة. وبدلاً من وصفها بالتنازلات، فالصحيح أنها عملية اتخاذ قرارات مدروسة ومحكمة، وبذل فيها جهد شاق في استخدام حلول السياسات ومرونتها من أجل تحديد خيارات أغلبية حاكمة جديدة. وفي رأي قيادات كلا الحزبين أن من شأن هذه القرارات أن تمهد لمستقبل بريطاني باهر في نهاية الأمر. وحتى الآن يبدو مجرد تصور إمكانية سيادة نهج جديد للحكم في واشنطن حلماً صعباً وبعيد المنال، غير أنه يظل ممكناً في حال توفر ثلاثة شروط أساسية لحدوثه، هي: الشرط الأول: ينبغي لقادة كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري تجاوز الكيد السياسي في صفوف الحزبين. ولا يمكن حدوث هذا التجاوز بطريقة مسيئة أو غير لائقة. فالحقيقة أن معظم الذين يتمسكون بالمواقف الخلافية لحزبهم، إنما يفعلون ذلك عن صدق وقناعة تامة. ولكن لا ينبغي السماح لهؤلاء بأن يكونوا هم الخلفية المحركة للماكينة الحزبية والمحددة لقراراتها وسياساتها. ولنذكر أن سياساتنا القومية قد خسرت مركزها القيادي كثيراً جراء انسياقها وراء ما يبث في المدونات الإلكترونية، وخوفها من الإعلانات الهجومية المضادة التي لا تزيد مدتها عن 30 ثانية. ولعل الخطوة الضرورية الأولى نحو الإصلاح السياسي هي العثور على القادة المستقلين من ذوي الشكيمة التي تمكنهم من الوقوف في وجه المواقف السياسية المتطرفة في كلا الحزبين. وهناك بريق أمل في الموقف الحازم الذي اتخذه الرئيس أوباما بتمسكه في وجه المعارضين بسياسة إصلاح النظام التعليمي. كما أظهر السيناتور ليندسي جراهام موقفاً مشابهاً حتى لحظة تنازله عنه على أقل تقدير، ببذله مساعي حثيثة في البحث عن موقف توافقي بشأن تشريع التغير المناخي. وليست هذه سوى نماذج ضئيلة جدّاً لما تعنيه القيادة، بيد أنها تشير إلى إمكانية ترجمتها إلى واقع في سياساتنا القومية الأميركية. والشرط الثاني: يتلخص في قدرة القيادة على تحديد الأهداف والأولويات. فليست جميع الأولويات بذات الدرجة من الأهمية، كما يمكن التخلي عن بعضها إذا لزم الأمر. فعلى سبيل المثال كان "كليج" على قناعة شخصية كبيرة بأهمية انضمام بريطانيا إلى عملة "اليورو"، ولكن تلك القناعة لم تعد أولوية عنده وتخلى عنها بمحض إرادته الآن. والفكرة هنا ليست مجرد التخلي عن المبادئ، وإنما تحوير الأولويات وإعادة ترتيبها بما يساعد القيادة على خدمة الصالح العام لبلادها. أما الشرط الثالث فهو أصعب الشروط التي يتطلبها الإصلاح السياسي في بلادنا: الصبر.. الصبر. ذلك أن النجاح يتطلب اتخاذ خطوات جريئة وبالسرعة اللازمة مع ضرورة التمسك بما عقدت عليه القيادة العزم حتى في أصعب الأوقات، على أن توضح هذه الأهداف على نحو كافٍ لعامة الجمهور. وعلى القيادة ألا تحتكم في ممارستها لدورها إلى ما تسفر عنه استطلاعات الرأي العام أو ما ينشر في صفحات جرائد التابلويد. والتحدي الذي تواجهه القيادة هنا هو قراءة الوسيلتين معاً لمعرفة مزاج الجمهور وتحقيق الأهداف المرجوة. ومع سذاجة الاعتقاد بأن تصفو المياه بين الجمهوريين والديمقراطيين بهذه السهولة، إلا أن عليهم أن يدركوا أن أشد ما تحتاجه سياسات واشنطن الآن هو وحدة الإرادة والقدرة على تحديد الأرضيات والأهداف المشتركة وتوجيه دفة القيادة نحوها. وكما قال وينستون تشرشل في هذا الصدد: "إن ثمن العظمة الشعور بالمسؤولية". وما أشد حاجة أميركا اليوم إلى شيء من العظمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيل ناب مستشار استراتيجي إعلامي لخمسة رؤساء أميركيين ولديفيد كاميرون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"