ما كان قرار العقوبات على طهران سهلاً على واشنطن إطلاقاً. فقد استغرق تسعة أشهر بذلت خلالها الدبلوماسية الأميركية أقصى ما يمكن من جهدٍ وتحايُلٍ وتبادُل مصالح صغيرة وكبيرة. وما بدأ الملفّ مع روسيا والصين؛ بل مع الحلفاء الأوروبيين الذين ما كانوا متحمسين للمسألة، باستثناء فرنسا التي كان رئيسها ساركوزي يريد من خلال ذلك إرضاء إسرائيل ودفعها للسير في عملية السلام بعد زوال "الأخطار" عنها أو تضاؤلها! لذا فقد احتاج الأميركي إلى تفاوُضٍ حتّى مع إنجلترا وألمانيا وإيطاليا، وهي دولٌ لها علاقاتٌ تجاريةٌ ضخمةٌ مع إيران. وكانت بريطانيا مهتمةً بعد بلير أن لا تبدو بمظهر التابع لواشنطن. وفي الشهور الخمسة الأخيرة، استغرق تفعيلُ التحالف الأطلسي تُجاه طهران زُهاءَ شهرٍ، وكان من عناصره: الحاجة إلى التضامن رغم كل شيء بسبب الأزمة المالية العالمية، وللحصول على تعاوُن روسيا، وللضغط جزئياً على إسرائيل من أجل السير في عملية "السلام". وتركّز الأمر طوال شهورٍ ثلاثةٍ على "إقناع" كلٍ من روسيا والصين. وقد كان حاسماً بالنسبة لروسيا، معلومات مخابراتها وخبرائها عن البرنامج النووي الإيراني، وعدم رغبتها في إيران نووية على حدودها وفي مجالها الاستراتيجي. ثم إنها كسبت من الولايات المتحدة حكاية الاستغناء التدريجي عن الدرع الصاروخي، وتراجُع حماس الولايات المتحدة لأنصارها في أوكرانيا وجورجيا ودول آسيا الوسطى. ومنذ أكثر من شهر صارت روسيا أكثر إفصاحاً بشأن العقوبات، وأورثها ذلك جدالاً علنياً مع إيران، وسُمعة خبثٍ ونِفاقٍ ما كانت روسيا بالفعل بعيدةً عنهما في عدة ملفّات. والصين ملفٌّ آخَرُ بدا مستعصياً، رغم سهولته الفعلية. فالصين أكبر حاملٍ للدولار بعد الولايات المتحدة نفسها. والولايات المتحدة هي السوق الأولى والرئيسية للصين. ولذا فالصدام مع أميركا غير ممكنٍ، وسيكون بمثابة إعلان حربٍ لا تتحملها الصين. وقد أفادت الصين رغم ضروراتها الإرغامية، أشياء صغيرة لكنها ذات دلالة، مثل عدم استقبال الدالاي لاما في واشنطن، ومثل إيقاف بعض صفقات الأسلحة المتطورة لتايوان. وظلّت بكين تستقبل الإيرانيين وتؤيّدهم عَلَناً رغم وعدها للولايات المتحدة، إلى أن فضحها الأميركيون بعد أن ضاق ذَرْعُهُم بالنفاقين الروسي والصيني. والصينيون ما خشوا على عقود النفط والغاز مع إيران، إذ أين ستبيع إيران إنتاجَها الضخم إن لم تأخذه الصينُ والهند واليابان؟! ثم إنّ الصين استترتْ مع روسيا تحت حجة جَعْل العقوبات معقولةً وإنسانيةً، ولا تُقْفل باب الحوار بل تفتحه بإرغام إيران على الإصغاء لرغبات الدول الكبرى والمجتمع الدولي. ولا تريد الصين المزيد من الإحراج بعد اضطرارها لحماية كوريا الشمالية، سواءٌ في الملف النووي أو على أثر إغراقها بارجةً حربيةً لكوريا الجنوبية! على أنّ المسألة الأكبر والأكثر خدمةً لإيران، وقد انجزها الروس والصينيون بالفعل، هي أنهم ألزموا الولايات المتحدة وحلفاءها على أن تمرَّ الأشياء كلّها من خلال مجلس الأمن والمنظمات الدولية. ولو اعترض هذان العضوان الدائمان؛ لاضطرت الولايات المتحدة وحلفاؤها للتصرف من خارج مجلس الأمن، سواء بالعقوبات الثنائية أم بالحرب. فباللجوء الدائم إلى مجلس الأمن(4 مرات حتّى الآن)، وإمكان إصدار قرارات من خلاله، صار التصرف عسكرياً من خارج مجلس الأمن أَمْراً مستبعَداً، كما أنه من المستبعد في الأمد المنظور أن يوافق الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن على الحلّ العسكري في الملف النووي الإيراني. لقد نجحت دبلوماسية أوباما، وأثبتت أن الولايات المتحدة ما تزال تُمْسِكُ بزمام الأُمور في العالَم، رغم الجراح التي نزلت بها أيام بوش، لكنه نجاحٌ غير مطلَق. فقد وقفت ضدَّه دولتان كبريان حليفتان لواشنطن، هما البرازيل وتركيا. والولايات المتحدة تستطيع "معاقبة" الدولتين بأساليب شتّى. إنما المُرجَّح أن لا تفعل، لأنها تعتبرهما نافذةً مُفيدةً على إيران. البرازيل تستفيد من إيران تجارياً، ويقول البعض إنّ بينهما تعاوُناً عسكرياً، لكنّ ذلك غير مرجَّح لأنها لعبةٌ لا تحتملها لها الولايات المتحدة. أمّا الإفادة التركية من الأزمة فهي كبيرةٌ وعاليةٌ ولا خسائر على الإطلاق. فقد صارت تركيا هي الشريك الاستراتيجي المعتَرَف به من سائر الأطراف في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وحاجةُ الأميركيين والأوروبيين والروس لتركيا، لا تقلُّ عن حاجة العرب والإيرانيين. وستكون خسارة تركيا خسارةً استراتيجيةً لإسرائيل إذا ظلّت العلاقات سيئة، وما نجحت مفاوضات السلام مع دورٍ لتركيا فيها. والمنتظر أن يتحدث البرازيليون والأتراك إلى الأميركيين حول المستقبل القريب، وكيف سيتابعون مع إيران. وتقول تركيا إنّ اتفاقية التبادل سوف تستمرّ. بيد أنَّ ذلك أمر غير واقعي، إذ أين سيتمُّ التخصيبُ خارج إيران، ما دامت كلٌّ من فرنسا وروسيا ملتزمتين بالقرار الدولي، والذي يعني رفضاً صريحاً للاتفاق المُنْجز من جانب البرازيل وتركيا مع طهران. ماذا ستفعل إيران؟ لقد استطاعت تأخير القرار تسعة أشهر، وتخفيف العقوبات بحيث لم تشمل النفط والغاز، وإنما تناولت التسلُّح والمسائل المالية. واستطاعت أيضاً اجتذاب تركيا والبرازيل ودولٍ أصغَر إلى جانبها، وهي دولٌ ليست في الغالب عدوةً لواشنطن، لكنها رفعت صوتها ضدَّ العقوبات دون أن تخشى "العواقب". فإدارة أوباما لا تريد التذكير الآن بالعصا الغليظة للإدارة السابقة، والتي ما جلبت أرباحاً لأحد. إنما لا ينبغي أن يُخطئ أحدٌ في تأثير العقوبات على طهران. لن يموت الإيرانيون جوعاً بالطبع. لكنه قرارٌ أميركيٌّ بمنع هذه الدولة الإسلامية البارزة من التقدم، ومنع التكنولوجيا المتطورة في سائر المرافق عنها منعاً شبه باتّ. وهذا أمرٌ لا يمكن تجاوُزُهُ بسرعةٍ حتّى بعد زوال العقوبات. إنه قرارٌ استراتيجيٌّ أميركيٌّ اتخذه رئيسان أميركيان، بعد تقارُبٍ و"تواطؤ" استمرَّ لحوالي الخمس سنوات، وجرى في ظلّهما احتلال بلدين إسلاميين، وتغيير نظام الحكم فيهما. فبين عامي 2001 (عام حوار الحضارات الذي دعا إليه خاتمي وأقرته الأمم المتحدة، وحصلت فيه اعتداءات "القاعدة" على أميركا)، و2005 (انتخاب نجاد للرئاسة) انتشر الأميركيون والإيرانيون معاً في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وظلّ تبادُلُ الاتهامات عاليَ الوتيرة والصوت، لكنّ المصالح ما تناقضت. ومنذ 2005 حدثت عدة حروبٍ واصطفافاتٍ وتوتراتٍ من الجانبين، وما أفاد شيئاً فيها تغيُّر لهجة أميركا أيام أوباما تُجاه إيران والعالم الإسلامي. وعندما بدأت المفاوضاتُ المتعثّرة في الصيف الماضي بين إيران والولايات المتحدة، اعتقدت إدارة أوباما أنه يمكن إجراء صفقةٍ شاملةٍ مع إيران تتضمن كلَّ المواضيع بما فيها مسائل التكنولوجيا ومناطق النفوذ؛ في مقابل النووي. بيد أنّ الإيرانيين أصرُّوا على كلّ شيء، وعلى إيقاف التفاوض حتّى لو كان الخلاف حول مسألة مثل النفوذ في العراق. لذا فالمنتظر أن تُواجه إيران الاستراتيجية الأميركية الشاملة باستراتيجية شاملةٍ أيضاً. وما عاد الظرف يسمح بمدّ النفوذ أو حتّى الهجوم؛ إنما الذي سوف يحصل في الغالب إثارة القلاقل والعراقيل في المواطن ذات القابلية لذلك. وأظنُّ أنّ سوريا سيتجمدُ حِراكُها، وسيزداد الجمودُ في حكومة "الوحدة الوطنية" بلبنان، ولن تتقدم المصالحة الفلسطينية، وسيزداد الموقف في أفغانستان وربما في الصومال واليمن قلقلةً واضطرابا. ولن يصل الأمر في الغالب إلى مُواجهةٍ مباشرة أو غير مباشرة بين إيران وإسرائيل. لكنّ الجميع سوف يحتاجون لتركيا (والبرازيل). الولايات المتحدة ستحتاج لتركيا لإبقاء نافذة مع إيران. وإيران سوف تحتاج لتركيا مثل الآن وأكثر للحاجة إلى التنفُّس. وسوريا و"حماس" والحكومة اللبنانية تحتاج لتركيا لإقناع إيران بتخفيف الضغوط على الاستقرار. لكن ما هي"الالتزاماتُ" الأخلاقية والسياسية التي ترتّبت على الأميركيين والأوروبيين؟ أول الالتزامات وأهمُّها إيقاف الاستيطان الإسرائيلي في القدس الشرقية وبقية أراضي عام 1967؛ وإن أمكن: الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية أو حدودها على الأقلّ قبل نهاية العام. إنه التزامٌ لا تستطيع الولايات المتحدة ولا إسرائيل الخروج عليه. وربما كان التصرف الإسرائيلي ضد "أُسطول الحرية" طريقةً لإيقاف التفاوض بالحجة القديمة لمكافحة الإرهاب. لكنّ ذلك لم ينفع، رغم التغطية السياسية الأميركية له حتى الآن. فقد استقبل أوباما أبومازن، ودعا لتخفيف الحصار على غزة. بيد أنّ همَّه الأساس يبقى وقف الاستيطان. وعلى هذه الصخرة سوف تتحطم السياسة الأميركية الشرق أوسطية أو تتحطم حكومة نتنياهو. هل كان قرار العقوبات ضد إيران ضرورياً؟ ربما لم يكن كذلك، لكنّ الولايات المتحدة في العهد الجديد، في الداخل والخارج، أرادت تثبيت بعض المبادئ، والتذكير ببعض الثوابت؛ وفي طليعتها: أنّ الولايات المتحدة ما تزالُ قويةً وقادرةً على استخدام قوتها في مواجهة العالم أو بالاشتراك معه، وقد اختارت هذه المرة المقاربة الثانية ضد دولةٍ إسلامية، كما اختارت مرتين من قبل المقاربة الأولى، وضد دولةٍ إسلاميةٍ أيضاً.