كثرت المؤتمرات حول السلام منذ فترة، وحمامة السلام وغصن الزيتون في واجهة الملصقات. فمَن يا ترى ضد السلام؟ إنما يقال إن المقصود بعملية السلام فلسطين، إقرار السلام فيها بدلا من العنف والحرب وإراقة الدماء. المقصود رفع الحصار عن غزة، وإدخال الدواء والغذاء والمواد الأولية الضرورية للحياة اليومية. المقصود هو رفع الحواجز في الضفة الغربية وإيقاف هدم المنازل، وترحيل الآلاف من الفلسطينيين خارج مدنهم وقراهم، وربط السكان بين الضفة وغزة، والتخفيف من مظاهر الفصل العنصري التي كانت سائدة في جنوب إفريقيا. فالمدخل لا غبار عليه. والهدف نبيل لو صدقت النوايا. ويشارك العرب والمسلمون بطبيعة الحال في هذه المؤتمرات لإثبات حسن نواياهم تجاه السلام، الذي لا يرفضه إلا إسرائيل، كسباً لمزيد من تأييد المشاركين للقضية الفلسطينية. وقد يتم ذلك كله باسم الدين والحوار بين الأديان، وباسم الديانات التوحيدية الثلاث، باسم إبراهيم أبي الأنبياء، عليه السلام، الذي ينتسب إليه اليهود والمسيحيون والمسلمون. فما يجمعهم أكثر مما يفرقهم. والسلام غاية الأديان الثلاثة. ومنه اشتق اسم "الإسلام". وقد تكون الدعوة إلى السلام أيضاً باسم الإنسانية والجمعيات الإنسانية ومنها جمعيات حقوق الإنسان أو حقوق المرأة وحقوق الطفل أو حتى حقوق المسنين، أو الجمعيات الليبرالية العامة التي تدافع عن الحرية في كل مكان. والدعوة إلى السلام ضد العنف والحرب وإسالة الدماء، وآلات الحرب الفتاكة والصواريخ، وقتل الآمنين المدنيين. وقد يشارك في ذلك الحاخامات اليهود بقبعاتهم فوق الرؤوس، والقساوسة المسيحيون، وبعض مشايخ المسلمين خاصة من الآسيويين أكثر من العرب الذين يعيشون مع الهندوس والمسيحيين ويحتاجون إلى السلام، وبعض الليبراليين من الديانات الثلاث. الجو روحاني خالص. ومن يعمل ضد الروح؟ وقد يظهر بعد فترة أن الهدف البعيد من مثل هذه المؤتمرات هو تحويل قضية فلسطين وأفغانستان والعراق من قضايا سياسية إلى قضايا إنسانية، والتعاطف مع آلام الشعوب بصرف النظر عن مصدرها. فلا فرق بين الدم الفلسطيني والدم اليهودي، بين حزن الأم الفلسطينية على شهيدها وآلام الأم اليهودية على فقيدها. فالدم المراق دم إنساني بصرف النظر عن دم المعتدي أم دم المعتدى عليه، دم القاتل أم دم الشهيد، دم الغازي أم دم المقاوم. وقد يساعد على ذلك بعض الفلسطينيين من الداخل، فلسطينيي 1967 لتحسين أوضاعهم المعيشية ولحاقهم بفلسطينيي 1948. فمصيرهم واحد بصرف النظر عن أي سلطة سياسية يعيشون تحتها. فالعرب قبلوا النكبة في 1948، وفي طريقهم إلى قبول النكسة في 1967. وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، والقريب الممكن خير من البعيد المأمول. والعنف، خراب ودمار. والحرب لا تنتهي. لا تحل شيئاً، مرة تكون غالباً، ومرة مغلوباً. لا تترك إلا الكراهية في النفوس. يشهد بذلك مشوَّهو الحروب، وقدماء المحاربين، والحركات المناهضة للحروب والداعية للسلام. هذا صحيح مع أن فيتنام استقلت بالحرب، والجزائر استقلت بالمقاومة، والصين لم تستقل إلا بالمسيرة الطويلة. لا حل لقضية فلسطين عن طريق الحرب. فماذا كانت نتيجة 1948 و1967 إلا المزيد من اللاجئين وضياع فلسطين كلها في حربين؟ وكأنه لا يوجد حل سياسي لقضية فلسطين، لا استرداد لحقوق شعب ولا لأرض، ولا لعودة لاجئين، ولا لإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس. فهذه خطابة سياسية قديمة، يقول البعض. إنما الحل، في نظرهم، للمأساة الإنسانية الناتجة عنها، تخفيف الآلام عن شعب فلسطين في الوطن البديل أو في إعادة بناء مخيمات اللاجئين، وبقاء الفلسطينيين حيث هم، والعيش في محميات مثل الهنود الحمر في أميركا. ينعمون بفنونهم الشعبية وعاداتهم وتقاليدهم، ونظرات السياح لهم كمزارات أثرية، ومثل "الجيبسي" في أوروبا على حدود بلدان أوروبا الشرقية ومثل كل المهاجرين والأقليات الذين يعيشون غرباء في أوطان، والدفاع عن حقوقهم في المساواة بالأغلبية. وكأن هذا هو الأمر الواقع الذي لا يمكن تغييره، ومسار التاريخ الذي لا يمكن الوقوف ضده. وقد بدأ العرب الخسارة بقبولهم القرارات الدولية مثل 242 والاعتراف بأن أقصى آمالهم إزالة آثار العدوان والعودة إلى حدود 1967، واتفاقيات مدريد، مبدأ "الأرض مقابل السلام"، واتفاقية أوسلو بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية تحت الاحتلال. لم يعد أمام العرب إلا خيار واحد، السلام كخيار استراتيجي، دون خيار آخر. المقاومة طريق مسدود، تضر أكثر مما تنفع. أدت إلى العدوان على غزة. ويسقط يوميّاً الشهداء دون أن تتحرر الأرض أو يضعف العدو. العرب في النزع الأخير، يريدون الحفاظ على ماء الوجه مثل سيناء منزوعة السلاح، وكانتونات فلسطينية في الأراضي المحتلة في 1967 مثل التجمعات الفلسطينية في الجليل الأعلى منذ 1948. وتكون القضية ديمقراطية في نضال الأقلية للمساواة بالأغلبية في الحقوق. والمطلوب من إسرائيل مزيد من الصمود، ومزيد من العصيان، ومزيد من الصبر حتى يتم لها النصر في النهاية! ولا تعرف هذه المؤتمرات ولا يعرف المشاركون فيها أن تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها من قضية سياسية إلى قضية إنسانية تولد جيلًا جديداً أكثر رفضاً لمشاريع السلام بعد أن مر بها الجيل الحالي جيل 1967، بل والعودة إلى رفض قرار التقسيم كما حدث في 1948، مصرّاً على الرفض المطلق والاستمرار في خيار المواجهة. فقد مكث الصليبيون في فلسطين حوالي مائتين وخمسين عاماً قبل أن يحررها صلاح الدين. ويعود الصهاينة لاحتلالها بمساعدة الغرب، ولم يمض عليهم إلا اثنان وستون عاماً. فما زالت المعركة في البداية. والنصر لمن هو أكثر صموداً وصبراً. فقد سئل عنترة: ما الشجاعة يا عنترة؟ فقال: أضع إصبعي تحت أسنان خصمي، ويضع خصمي إصبعه تحت أسناني. فمن يصرخ أولا يكن هو الأقل شجاعة. المهم ألا يصرخ العرب أولا. وإن صرخت الأنظمة حتى وإن لم تضع أصابعها في فم خصمها فلا تصرخ الشعوب. والصهيونية ما زالت من آثار الاستعمار الاستيطاني القديم. وكما سقط النظام العنصري في جنوب أفريقيا الذي أتى في 1947 فسينتهي أيضاً الاستعمار الصهيوني الذي أتى كذلك بفعل بريطانيا في 1948. وفي المثل العربي القديم "لا يفل الحديد إلا الحديد".