لقد خاطر ملايين العراقيين بأرواحهم من أجل ممارسة حقهم الديمقراطي الأساسي في التصويت في الانتخابات العامة التي جرت في شهر مارس الماضي. وسجلت مشاركة الناخبين نسبة عالية تجاوزت الـ60 في المئة على امتداد البلاد كلها، حيث شاركت جميع الأعراق والطوائف التي يتشكل منها نسيجنا الوطني وتعددنا القومي. ويتطلع العراقيون الآن إلى تخطي مرحلة النزاعات والعنف وجعلهما أثراً من آثار الماضي. ولكن بعد مضي ثلاثة أشهر على انتهاء العملية الانتخابية، لا يزال العراق يفتقر إلى حكومة فاعلة أو مستقرة. ولا تمثل حالة عدم اليقين هذه تهديداً للمجتمع العراقي ونظامه الديمقراطي فحسب، وإنما تهدد استقرار المنطقة بأسرها. وربما يلزم التذكير، في هذا المقام، بأن تحالفنا السياسي "كتلة العراقية" قد فاز بمعظم أصوات الناخبين ومقاعد البرلمان في استحقاقات مارس الماضي. وقد استجاب العراقيون بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم لمنبرنا الداعي إلى مشاركة كافة الجماعات في العملية السياسية، وفي المصالحة الوطنية القائمة على العلمانية وتخطي كافة الاستقطابات والانقسامات السياسية والعرقية والطائفية. كما استجاب العراقيون على نطاق واسع لدعوتنا إلى تغليب ثقافة وممارسة سيادة القانون والنظام وخلق الظروف الملائمة لازدهار الأمة واستقرارها وتعايشها السلمي مع جيرانها. فهذا هو العراق المنشود الذي نأمل في بنائه. ولكن من المؤسف أن هناك عناصر داخل العراق وخارجه تعمل على تقويض الديمقراطية الهشة الناشئة للتو. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لجأ هؤلاء إلى ممارسات الترهيب والاعتقالات واتهامات التزوير الملفقة وغيرها بهدف إعادة إحصاء أصوات الناخبين. وعلى رغم شكوكنا في دوافع هؤلاء، قبلنا مطالبهم بإعادة إحصاء الأصوات. وقد أعلنت اللجنة الانتخابية العليا المستقلة النتائج النهائية لإعادة الإحصاء في وقت مناسب، بينما صادقت المحكمة العراقية العليا على تلك النتائج. وعليه فقد فازت قائمة "العراقية" بـ91 من مقاعد البرلمان، غير أنه ليس في مقدورها أن تحكم العراق منفردة، ما يلزمها بضرورة بناء تحالف قوي مستقر تشارك فيه كافة الجماعات العراقية، حتى يكون هذا التحالف ممثلاً حقيقيّاً لكافة أطياف وفاعليات الشعب العراقي. وللتذكير أيضاً فإن الحكومة الحالية ذات الميول الطائفية عجزت عن توفير أبسط متطلبات المواطنين مثل الأمن المستدام والخدمات الأساسية المحسنة وخلق فرص وظيفية أفضل للمواطنين. وعلى رغم أن جوهر الممارسة الديمقراطية هو الانتقال السلمي للسلطة، لا يزال رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي يرفض الاعتراف بهزيمته انتخابيّاً على رغم عدم تمكنه من قلب نتائج الانتخابات لصالحه. وبذلك يرفض المالكي رغبة العراقيين في التغيير السياسي والتقدم الوطني. وبصفتنا القائمة الفائزة بالانتخابات الأخيرة، فإن من حقنا أن نعطي الفرصة الأولى لتشكيل حكومة جديدة تقوم على التحالف مع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى. غير أن المالكي لا يزال يواصل السعي من أجل الاحتفاظ بهذه الفرصة لحزبه، متحديّاً بذلك العرف الدستوري وإرادة الشعب العراقي. وبما أن حزبه جاء في المرتبة الثانية من نتائج الانتخابات، فإن قائمتنا ترغب في مقابلته لإجراء حوار مباشر معه، دون أية شروط مسبقة. فنحن عازمون على تشكيل حكومة تقوم على الكفاءة والمهنية، بدلاً من خطوط الانتماء الطائفي أو الإثني. ولكن من المؤسف أن المالكي واصل رفضه مقابلتنا والتحدث معنا حتى هذه اللحظة. كما تبدي قائمة "العراقية" قلقاً إزاء الخطر الذي تمثله تدخلات بعض الأطراف في طهران في شؤون بلادنا، وخاصة أنها دعت الكتل الانتخابية الخاسرة في الانتخابات الأخيرة بهدف التوصل معها إلى صفقة لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة. وستستبعد هذه الخطوة تلقائيّاً الجماعات الشيعية والسنية غير الطائفية، وكذلك غير المسلمين، من أي تمثيل مستحق لها في الحكومة المقبلة، إلى جانب تهديد هذه الصفقة بدفع العراق مجدداً وعميقاً إلى دائرة النفوذ الإقليمي. ولنقل مباشرة إن هذه الخطوة تهدف لاستعادة سياسات الطائفية والعنف القديمة. ولن نقبل من جانبنا أن تعبث بمصير أمتنا دولة أجنبية على هذا النحو. ولابد من أن يحظى العراق بفرصة لتشكيل حكومة فاعلة مستقرة وقادرة على خدمة مصالح الشعب العراقي، وإقامة علاقات طيبة مع الجيران، دون تدخل خارجي من أحد في شؤوننا الداخلية. إننا نتطلع إلى عراق قوي ذي مؤسسات ديمقراطية شفافة راسخة، وإلى ملاذ للعلمانية وإتاحة الفرص المتكافئة لجميع العراقيين، وليس لخدمة مصالح نخبة سياسية محدودة. ومن هنا أوجه الدعوة إلى جميع العراقيين كي يعملوا معاً من أجل تحقيق هذا الهدف. ونأمل أن تمد الولايات المتحدة والأمم المتحدة يد العون في جمع شمل كافة الكتل السياسية العراقية بغية تشكيل حكومة عينها على خدمة المصلحة الوطنية العامة، وليس على أية أجندات أخرى. وآمل من جانبي في أن تبقى الولايات المتحدة على التزامها الحالي إزاء العراق، مساهمة منها في حماية ديمقراطيتنا الهشة الناشئة من خطر الطامعين ومن النفوذ الأجنبي المتربص ببلادنا. هذا ولا تزال واشنطن تمثل رافعة سياسية قوية في العراق، فضلاً عما لها من التزام أخلاقي إزاء الشعب الذي حررته من طغيان النظام السابق. وعليها أن تفعل كل ما بوسعها من أجل ضمان السلام المستدام والاستقرار الأمني السياسي. وقد ألمح نائب الرئيس "جو بايدن" مؤخراً إلى إمكانية محافظة بلاده على التزامها بخفض عدد القوات الأميركية المرابطة حاليّاً في العراق إلى معدل 50 ألفاً خلال موسم الصيف الحالي. وعلى رغم تأييدي منذ وقت طويل لخطة الانسحاب العسكري الأميركي، فإنني أدرك أنه ليس في الإمكان السماح للعراق بالانزلاق مجدداً إلى حالة العنف الطائفي الدموي التي كان عليها، وهي حالة يسيطر عليها النفوذ الأجنبي ويمسك بخيوطها كما نعلم. ولا تزال أمام العراق فرصة نادرة غير مسبوقة لأن يتحول إلى قوة إقليمية ناجحة وديمقراطية في قلب منطقة الشرق الأوسط. وعلينا أن نكافئ الناخبين العراقيين على ثقتهم، وخاصة أنهم غامروا بأرواحهم فداءً للتحول الديمقراطي ونبذاً للعنف والصراع الطائفي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"