سيكتب الإعلاميون لعقود حول الحرية الإعلامية المنشودة في المجتمعات، كل حسب مقاييس الواقع، ولا يبحث الإعلامي إلا عن اللحظة التي يتم فيها الإفراج عن قلمه الحبيس في زنزانة القوانين المانعة لانسياب الحريات التي خرجت عن الطوق الورقي وتبعثرت في الفضاء الإلكتروني وقد أعجزت دولة بحجم الصين عن وقف آثارها على الداخل قبل الخارج. إننا نعيش أمام حالة من الازدواجية المرئية، حيث غالبية الدساتير ومن خلفها القوانين والتشريعات تنص على أن حرية التعبير مصونة وفقاً لذات النصوص المانعة في العالم الثالث مقارنة بالعالم الأول الذي ليس لديه من الأصل قانون يحد من الحراك الحر في التعبير. فالإعلام الحر لا يجلب لأي مجتمع إلا التقدم، وهو الذي يميز المجتمعات ويحرك المياه الراكدة فيها من أجل الصالح العام. أما التجاوزات التي تقع في أي مكان فإن مصير البت فيها أروقة المحاكم والقضاء العادل، لأن قراراتها لا تخالف سهولة تدفق المعلومات عبر مختلف الوسائل الإعلامية، فالقضاء حصانة مأمونة لكبح جماح الحرية اللامسؤولة في أعرق الأنظمة الديمقراطية فضلاً عن غيرها. هناك مقاييس موضوعية لتقدم الأمم ولمعرفة مَن هي أدنى من أخرى وعلى رأسها "سياج الحريات" أو "حصانة الرأي"، وهناك مجالات مادية بحتة يمكن المنافسة فيها مع كل الدول، حتى لو حدث ذلك من باب الاستهلاك للاستعراض، أما الجوانب المعنوية أو القيم المطلقة فهي تحدٍّ صعب، والأصعب هو الاستمرار في التمسك بها لقرون. إن أميركا تصنف اليوم ضمن الدول الأعظم قوة سياسية وعسكرية واقتصادية وعلمية وثقافية، ولكن مع ذلك كله فإن قوة الديمقراطية الشاملة تبقى أقوى من تلك الجزئيات، وهو سر عظمتها الراهنة على رغم وقوعها قبل غيرها في براثن الأزمة العالمية الأخيرة. ومن هنا يعتبر توقيع أوباما على قانون حرية الإعلام حول العالم إنجازاً فريداً وإضافة إلى سجله السياسي، حتى لو لم يستمر في الحكم لدورة ثانية. فرب قرار واحد من رئيس أكبر دولة في العالم يغير وجه التاريخ كما تغير وجه أميركا برئاسة أوباما. وينص هذا القانون على قيام "الخارجية" بإصدار تقرير عن أوضاع حريات الإعلام، سيتضمن قائمة بأسماء الدول التي تنتهك حرية التعبير. والذي يزيد هذا القانون مصداقية من ذات الوسط الإعلامي هو إطلاق اسم الصحفي الأميركي "دانيل بيرل" عليه، وهو الذي عمل بصحيفة "وول ستريت جورنال" وقتل في باكستان عام 2002 بقطع رأسه. إن هذا التكريم المهني العالمي جاء لإثبات حقيقة ناصعة، هي أن قطع رؤوس الأحرار لن يؤدي إلى قطع ألسنتهم عن الكلام أو أقلامهم عن الكتابة. فكم من الرؤوس تدحرجت على الطريق العام للحريات، وكم من العروش سقطت عندما وضعت المتاريس والحواجز المادية والمعنوية عبر القوانين الصارمة والمانعة للنشر والإعلام، ولكن في النهاية كانت "لؤلؤة" الحرية هي الجائزة الفائزة. فأميركا اليوم هي راعيتها على رغم الحديث المكرور عن ازدواجيتها السياسية، فالحياة أكبر من أن تنكمش في السياسة، بل السياسة هي أضعف جزء فيها، والإعلام الحر هو السبيل الوحيد لأي نهضة سوية وتنمية مستدامة. نريد إعلاماً عالميّاً بنيته الأساسية "الحرية"، أنهارها تتدفق على بقية شعوب الأرض بناء ونماء مستمراً. فالإعلام بصورته الحرة قادر على القيام بهذا الدور التنموي الحضاري، وهو رأس الحربة في الدفع نحو المستقبل، فرأس "بيرل" قاعدة مهمة في الحفاظ على ألسنة وأقلام رافعي مشاعل الحريات في كل الأصقاع، فهذا هو الدور الذي يحسب لأوباما في أميركا، حتى وإن تذمر البعض من ازدواجيتها في السياسة العالمية.