كان مقالاً محايداً لا دين فيه ولا جنس ولا سياسة، وهي الموضوعات التي يمكن أن يختلف الناس بشأنها، ورغم هذا، وصلتني رسالة إلكترونية أولها سب وآخرها شتم وما بينهما تهديد مباشر وكلام قاس يذوّب الحديد، لم يوجه إليّ مثله منذ أن خلقني الله وربما لن أسمع مثله أبداً. مع السطور الأخيرة من الرسالة كانت يداي ترتجفان من التوتر والغضب، واتخذت قراري بالتوقف عن الكتابة، وتذكرت أكثر من شخص نصحوني بالابتعاد عن الكتابة وتجنب القيل والقال والمشكلات، خصوصاً أنني كنت في بداياتي ولم أدخل في مرحلة عشق الكتابة، لكن كان لابد من أخذ الإذن بالتوقف من صديقي وأستاذي ورئيس تحرير المجلة التي تنشر مقالاتي، فاتصلت به وأخبرته، وكان هذا الرجل من النوع الذي يعالج المواقف بالصدمات والأدوية المرّة، فقال وهو يضحك: إذا كنت تريد أن تبكي بسبب رسالة تافهة، فاترك الكتابة تذهب في حال سبيلها، فهذه الحرفة لا تناسب من لم يكن جلده مثل جلد التمساح السميك الذي لا يتأثر سريعاً. فقلت له بأنني سأرد على ذلك الشخص وأوضّح له موقفي ووجهة نظري، فقال: الحوار مطلوب مع من ينتقد، أما الذي يسب ويشتم فلا حوار معه. رميت تلك الرسالة وراء ظهري وواصلت الطريق، لكني تسلمت رسالة أخرى بعد مدة من المستوى نفسه، فاتصلت بالأستاذ وأخبرته، فقال موبخاً: أنت محظوظ لأنك تكتب، ومحظوظ لأن هناك من يقرأ لك، ومحظوظ لأن أفكارك وأحلامك تنشر علناً أمام الملأ، ومحظوظ لأن لديك نافذة تطل منها على الناس وتبث همومك وآلامك، ومحظوظ لأن هناك أشخاصاً كثراً يملكون موهبة الكتابة لكنهم لا يجدون مجلة أو جريدة تأخذ بيدهم... في مقابل كل هذا الحظ، أليس من العدل والمنطقي أن تتلقى بين الحين والآخر بعض الشتائم؟ هل تريد أن "تكوّش" على كل شيء من دون أن تدفع ضريبة بسيطة؟ وقبل أن تنتهي المكالمة قال: أرجو أن تكون هذه آخر شكوى، وتستطيع أن تستعين بورق المحارم لتمسح دموعك بدلاً من أن تخبرني في كل مرة تصلك رسالة تجرح مشاعرك الرقيقة. لكن كما يقولون "الثالثة ثابتة"، فقد وصلتني أقسى الرسائل على الإطلاق، شخص يعرف الكثير عني، لم يترك شتيمة إلا وضعها في رسالته. بقيت لأيام لا أعرف ماذا أفعل، وأخيراً قررت الاتصال بأستاذي فقال: كنت أعمل أستاذاً محاضراً في الجامعة، وهي تصرف لي راتباً شهرياً مقابل ذلك، لكني كنت أقول بأنني أنا المدين للجامعة وليست هي، وأنا من يفترض أن أصرف لها راتباً شهرياً، لأنها وفّرت لي منبراً أمارس فوقه هوايتي وأستاذيتي، وأحقق ذاتي وأنشر أفكاري، وهناك مئات الطلاب الذين ألزمتهم الجامعة أن يستمعوا إلى كل حرف أقوله. والكاتب مثل أستاذ الجامعة بل هو في وضعية أفضل، لأنه يمارس هوايته ويحقق ذاته وينشر أفكاره على الآلاف، وإذا تمكنت كتاباته من البقاء حية بين الناس، فلم يخبُ بريقها ولم يتغير طعمها، فإن هناك الملايين من القراء على مدى السنوات. وفي مقابل هذه النعمة، ألا تصبر على رسالة سب لم يرها غيرك، كتبها شخص لا أحد يسمع له، بل إن القانون يمنعه من نشر شتائمه؟