ربما يكون المحور القانوني هو الأكثر جدوى من بين المحاور الثلاثة التي أقرها مجلس وزراء الخارجية العرب في اجتماعه الطارئ لبحث الرد على الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ضد سفن "قافلة الحرية" مؤخراً. فالمحور السياسي موصدة أبوابه هذه المرة، كما في الاعتداءات الإسرائيلية السابقة، بفعل الحماية التي توفرها الولايات المتحدة لمرتكبي هذه الاعتداءات. وقد وضعت الإدارة الأميركية منذ اللحظة الأولى سقفاً منخفضاً لأي تحرك عبر الباب الطبيعي الذي يلجأ إليه ضحايا أي عدوان وهو مجلس الأمن. أما المحور الإعلامي فهو بطابعه لا يحقق نتائج سريعة. فالعمل الإعلامي يخلق تراكما تدريجيا إذا توافرت له مقومات النجاح والتأثير والقدرة على منافسة "الميديا" الغربية المناصرة لإسرائيل. لذلك، يبدو التحرك القانوني هو الأكثر جدوى تقريباً، إذا كان الهدف هو عدم إفلات إسرائيل من العقاب مرة أخرى، خصوصا بعد البيان الهزيل الذي صدر عن مجلس الأمن. فلم تسمح الولايات المتحدة بإصدار هذا البيان إلا بعد أن شوَّهت صيغته التي كانت مقترحة، على نحو وضع التحقيق في الجريمة بين يدي إسرائيل فصارت الخصم والحكم. كما أن أي تحقيق دولي تجريه الأمم المتحدة لن يحدث أثراً يفوق ذلك الذي ترتب على تحقيق جولدستون حول العدوان على غزة، بل يقل لأن موقف مجلس الأمن هذه المرة أضعف. وقد ثبت، عبر التجارب، أن أي تحقيق دولي لا يمكن أن يرتب نتائج فعلية إلا إذا حدث في إطار الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة. فالعمل بموجب هذا الفصل، الذي يتيح لمجلس الأمن فرض عقوبات أو اللجوء إلى القوة العسكرية، يضفي على أي تحقيق دولي جدية وفاعلية لأنه يجري في هذه الحالة على أساس أن هناك عملا من أعمال العدوان أو تهديداً للسلم أو إخلالا به. لكن إسرائيل مازالت بمنأى عن الخضوع للقواعد التي يحددها الفصل السابع في التعامل مع أعمال العدوان وتهديد السلم الدولي، لأن الولايات المتحدة تضعها فوق القانون الدولي في مجمله، وليس فقط ميثاق الأمم المتحدة. لذلك يسود اعتقاد في العالم العربي والإسلامي، في أن القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها أميركا، لا تتذكر أن في ميثاق الأمم المتحدة فصلا سابعاً حين يتعلق الأمر بإسرائيل رغم أن تجاهلها المستمر لقرارات أصدرها مجلس الأمن بحقها كان يفرض اللجوء إلى هذا الفصل. كما أن حديث مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية الحالية عن الخطر الذي يهدد قواتهم في الشرق الأوسط من جراء استمرار العدوانية الإسرائيلية، وما يترتب عليها من انتشار التطرف والإرهاب، يعتبر إقراراً غير مباشر بأن ممارسات الدولة العبرية تمثل تهديدا للسلم. ومع ذلك، سعت هذه الإدارة إلى إضفاء حماية تامة على إسرائيل في مجلس الأمن هذه المرة أيضا، رغم أن الأمر يتعلق بجريمة مركبة متعددة الأبعاد. فالاعتداء الذي حدث على قافلة الحرية ينطوي على ثلاث جرائم في آن معاً. فهو، أولا، يعتبر جريمة ضد الإنسانية وفق أي تعريف لها منذ ميثاق المحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية عام 1945، وحتى إعلان روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998. فقد حدَّد ميثاق المحكمة العسكرية الدولية أفعالا عدة تدخل في نطاق الجريمة ضد الإنسانية، وهي القتل العمد والاسترقاق وإبعاد السكان وأي أفعال لا إنسانية أخرى ترتكب ضد سكان مدنيين قبل أو بعد الحرب. أما إعلان روما، أو النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فقد وَّسع نطاق ما يُعتبر جريمة ضد الإنسانية، بحيث لم تعد مرتبطة بالحرب التي صارت جرائمها قائمة بذاتها، فأصبح هناك ما يعتبر جرائم حرب وما يعد جرائم ضد الإنسانية. ومن أهم ما يدخل في إطار هذه الأخيرة، وفق إعلان روما، القتل العمد والاسترقاق وإبعاد السكان وقتلهم، وبعض أنواع الإبادة، والتعذيب، واضطهاد جماعة محددة أو مجموعة من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية أو قومية أو لأسباب أخرى لا يجيزها القانون الدولي، والإخفاء القسري للأشخاص والفصل العنصري، والأفعال اللاإنسانية المشابهة التي تتسبب في معاناة شديدة أو أذى خطير يلحق بالجسد أو الصحة العقلية أو البدنية. وينطبق هذا التعريف على جريمة الاعتداء على "قافلة الحرية" لأنها شملت قتلا عمدا لبعض النشطاء وقتلاً قسريا لبقيتهم واضطهادا شديدا لهم. كما أن هذا الاعتداء يعتبر، من ناحية ثانية، جريمة إرهاب دولة لأنها أدت إلى إرهاب وترويع نحو سبعمائة شخص تطوعوا للقيام بعمل من أعمال الإغاثة الإنسانية لسكان قطاع غزة الخاضع للحصار منذ يونيو 2007 والبالغ عددهم أكثر من مليون ونصف المليون يعيش نحو 80 في المائة منهم على المساعدات الدولية. وكلهم من نشطاء المجتمع الدولي، وينتمي بعضهم إلى منظمات معروفة ذات سمعة دولية. وقد حاول خبراء قانونيون غربيون مؤيدون لإسرائيل مساعدتها فدفعوا بأن ما فعلته لا يمكن أن يكون إرهاب دولة لأن القانون الدولي يعطيها الحق في فرض الحصار البحري، ولأن قطاع غزة يعتبر منطقة حرب بالنسبة لها. لكن هذا الحق لا يجيز للدولة، ما لم تكن إرهابية، إنزال جنودها من الطائرات على ركاب سفن في عرض البحر لقتلهم عن سبق إصرار وتعمد. وقد ثبت من تشريح جثامين القتلي التسعة أن الرصاص أُطلق على رؤوسهم بعيارات 9 ملم من مسافات قريبة. لذلك يمكن أن يثير التحرك القانوني بشأن هذه الجريمة جدلاً يثري القانون الدولي، ويحميه من محاولات أنصار إسرائيل تقليص إمكانات المعاقبة على جرائم سيكون مستقبل العالم مظلماً إذا لم يمكن الحد من سبل الإفلات منها. وفضلا عن ذلك كله، ومن ناحية ثالثة، يمثل هذا الاعتداء انتهاكاً سافراً وخطيراً للقانون الدولي بصفة عامة، واتفاقية جنيف الرابعة بصفة خاصة. وكي لا يكون إفلات إسرائيل بهذه الجرائم كلها نذير سوء للمجتمع الدولي، يحسن أن تركز الأمانة العامة لجامعة الدول العربية جهودها من أجل ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين اتخذوا قرار الاعتداء على "قافلة الحرية" وشاركوا في تنفيذه، وإطلاق حملة دعاوى قضائية ضدهم. وينبغي ألاَّ يقتصر هذا التحرك على محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لصعوبة إجراءات رفع دعاوى قضائية أمامهما. فالقضاء الإقليمي والوطني قد يكون أكثر جدوى، خصوصا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وقضاء الدول الأوروبية التي تسمح قوانينها بقبول دعاوى في مثل هذه الجرائم، مثل بريطانيا وإسبانيا اللتين بادرتا باستنكار الاعتداءات على "قافلة الحرية".