شهد التاريخ البشري الحديث أوبئة متكررة من مرض الكوليرا، نتجت عنها وفاة الملايين من البشر، وأحياناً حتى عشرات الملايين، فمثلا، خلال القرن التاسع عشر، تسببت أوبئة الكوليرا في وفاة عدد لا يحصى من البشر، 15 مليوناً منهم في الهند وحدها، ومليونين في روسيا، بالإضافة إلى 23 مليوناً آخرين في مناطق مختلفة من العالم. ومع بدايات القرن العشرين، استمرت أوبئة الكوليرا -وعددها ستة خلال ذلك القرن- في حصد أرواح الملايين من البشر دون هوادة، وهو ما استمر حتى القرن الحادي والعشرين مع ظهور نوع جديد من الميكروب المسبب للمرض، يعتبر مسؤولا عن وباء الكوليرا السابع، والحالي. ولذا، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، لا يمكن تحت أي فرضية اعتبار الكوليرا مرضاً تاريخيّاً من أمراض العصور الوسطى، بل هو مرض حي يرزق يوجد بيننا حاليّاً، ما زال البشر يدفعون ثمنه فادحاً من الأرواح حتى يومنا هذا، حيث تظهر الإحصائيات الحديثة إصابة ما بين ثلاثة ملايين إلى خمسة ملايين شخص حول العالم بميكروب الكوليرا كل عام، يلقى منهم 120 ألفاً حتفهم. وعلى رغم أن استخدام تقنيات تنقية مياه الشرب، وإضافة الكولورين، قد نجحا بشكل هائل في خفض معدلات الإصابة به، خصوصاً في الدول الغنية والمتقدمة، إلا أن الظاهرة الحديثة لعولمة الأمراض لا زالت تسمح لميكروب الكوليرا بالبقاء والتواجد حتى في أغنى الدول وأكثرها تقدماً. فما زالت بيانات السلطات الصحية في الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، تظهر وقوع عدد -وإن كان بسيطاً- من الإصابات بين شعوب هذه الدول، عاماً بعد عام. وللتذكير فالكوليرا مرض معدٍ، تسببه بكتيريا عصوية الشكل، تعيش في الظروف الطبيعية في الماء الآسن عند مصبات الأنهار ومناطق التقائها بالبحار والمحيطات. وتنتقل هذه البكتيريا إلى الشخص السليم عن طريق مياه الشرب أو الخضراوات أو الفواكه الملوثة ببقايا براز شخص مريض. وتنتج تأثيرات الكوليرا على الجسم البشري ليس من البكتيريا مباشرة، وإنما من سمومها. فبعد دخول الميكروب إلى الجسم ووصوله إلى الأمعاء الصغيرة، يبدأ في إفراز سموم تؤثر على الخلايا المبطنة للأمعاء، المسؤولة عن امتصاص المياه والسوائل التي نشربها كل يوم. وهذا التأثير السام يؤدي إلى فشل هذه الخلايا في امتصاص السوائل، وهو ما يظهر في النهاية على شكل إسهال شديد، يؤدي إلى جفاف، ودخول المريض في غيبوبة في النهاية. وتبدأ أعراض الكوليرا في الظهور بعد ساعات قليلة من الإصابة بالمرض، وإذا لم يتم علاجها، أو استبدال السوائل المفقودة من الجسم بسببها على وجه السرعة، يمكن أن يلقى المريض حتفه في غضون أيام قليلة. وتكتسي الكوليرا خطورة خاصة في المنطقتين العربية والإسلامية، ولعدة أسباب. منها أن هاتين المنطقتين تتواجد فيهما ثلاث من أكثر الدول تعرضاً لدمار وخراب البنية التحتية، بما في ذلك شبكات مياه الشرب والصرف الصحي، وهي الصومال، وأفغانستان، والعراق. هذا بالإضافة إلى أن هاتين المنطقتين تشهدان عدداً من الصراعات والنزاعات المسلحة، كما هو الحال في جنوب السودان، وإقليم دارفور، وشمال اليمن، وقطاع غزة بالطبع، الذي شهد عدة حوادث من انهيار نظم ومحطات الصرف الصحي، وغرق جزء كبير من سكانه في بحر من المخلفات البشرية. وأيضاً نتيجة لطبيعة المنطقة برمتها، من حيث كونها منطقة صحراوية تندر فيها الأمطار ومياه الشرب النظيفة، وكثيراً ما يلجأ سكان المناطق الفقيرة منها للاعتماد على مصادر مياه شحيحة، وملوثة في الكثير من الأحيان. وإذا ما خصصنا دول منطقة الخليج العربي بالذكر، فسنجد أنها في وضع حرج إلى حد ما عندما يتعلق الأمر بمرض الكوليرا، ولعدة أسباب. السبب الأول، هو كون هذه المنطقة محوطة بدول يتوطن فيها المرض منذ قرون، مثل باكستان، وإيران، والعراق. والسبب الثاني هو حجم العمالة الوافدة إلى دول الخليج من شبه القارة الهندية، الموطن والمصدر الأساسي للميكروب، وهي عمالة تقدر بعدة ملايين في دول الخليج مجتمعة. والسبب الثالث هو اعتماد دول المنطقة إلى حد كبير على الخضراوات والفواكه المستوردة من مناطق مختلفة من العالم، ومن المعروف أن الأغذية الطازجة الملوثة تعتبر إحدى أهم طرق انتقال الميكروب. والسبب الرابع والأخير هو كون الخليج العربي من أكثر المناطق الملاحية نشاطاً وازدحاماً، مما يشكل خطراً خاصاً من خلال ما تنقله السفن التجارية في بطونها من مياه. وهذه السفن المصممة لنقل حمولات ضخمة، تصاب بحالة من عدم الاتزان أثناء إبحارها فارغة. ولذا تلجأ هذه السفن إلى شفط كميات ضخمة من المياه في الموانئ التي تخرج منها بدون حمولة، لتقوم بتفريغها لاحقاً في الموانئ التي يتم فيها ملؤها بالبضائع. وهو ما يعني أن هذه السفن تحمل مليارات الجالونات من المياه، من منطقة إلى منطقة أخرى، قد تفصل بينهما آلاف الأميال. ولذا على رغم أننا لا نشرب مياه الخليج المالحة بشكل مباشر، إلا أن من الممكن الإصابة بميكروب الكوليرا من خلال تناول المحاريات النيئة، والأسماك غير المطهوة جيداً. ولكن على رغم هذه الأسباب كلها لا زال معدل الإصابة بالكوليرا بين سكان الخليج منخفضاً مقارنة بالمعدلات العالمية، بسبب شبكات مياه الشرب ونظم الصرف الصحي، التي تعتبر من الأفضل على مستوى العالم. وإن كان هذا الوضع الحالي الجيد، لا ينبغي أن يكون سبباً للتراخي والإهمال، أو داعيّاً لتجنب الحيطة والحذر في التعامل مع واحد من أخطر الأمراض الُمعدية التي يمكن أن تصيب البشر.