كان محمد عابد الجابري أحد أهم المفكرين في العالم العربي. وقد نال بأطروحته حول ابن خلدون أول شهادة دكتوراه من جامعة محمد الخامس، وشكّلت تلك الأطروحة أول أعماله التي بلغت 30 عملاً فكرياً. كان فيلسوفاً ناقداً ومناصراً للسياسة الاجتماعية اليسارية، وكان ملتزماً بالتعليم، كمدرس ابتدائي في البداية ثم كأستاذ جامعي. رأى الجابري نفسه في تيار تقليد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إذ ناشد قُرّاءه الإصرار على حقوقهم في تعريف العالم كما يرونه وليس على أساس سلطات محددة سلفاً. نشر في عام 1990 "حوار المشرق والمغرب" مع الفيلسوف المصري حسن حنفي. وظهر عمله الرئيسي، "نقد العقل العربي"، في أربعة أجزاء في بيروت والمغرب بين عامي 1984 و2001، حيث حاول التعامل مع الإشكاليات التي تثيرها قراءة الكتابات التراثية، العربية الإسلامية. ويستمر تأثير عنصرين رئيسيين، برأي الجابري، في تاريخ الفكر السياسي العربي؛ أولهما التقليد بدلاً من الفكر الناقد، وثانيهما أن الحكّام ليسوا دائماً دكتاتوريين وحدهم وإنما هم نتاج لما حولهم. وحتى تتسنى مجابهة تلك التأثيرات، أراد الجابري تقوية التقاليد العقلانية في الفكر الإسلامي، مستخدماً كتابات آرسطو وابن رشد كمرجعية مُلهِمة. ومثله مثل العديد من المفكرين العرب المعاصرين، لم يكن الجابري معروفاً في ألمانيا حتى تعرّف الفيلسوف والناشر "ريجنالد غرونبيرغ" على أعماله عام 1995، وهو يخطط لنشرها باللغة الفرنسية في دار "بيرلن فيرلاغ" للنشر الخاصة به. ويعتبر هجوم الجابري على السلطة التقليدية متفجراً من الناحية الاجتماعية، مثله مثل المفكر المصري فرج فودة الذي قتل على أيدي متطرفين عام 1992، أو المفكر السوداني محمود طه الذي أُعدِم شنقاً عام 1985 لمعارضته تطبيق الشريعة الإسلامية. لكن كان من مؤشرات الليبرالية الكبرى في المغرب أن الجابري لم يواجِه يوماً مضايقات من هذا النوع، بل عرض عليه ملك المغرب تكريماً وطنياً، لكنه طالما رفض قبوله. سأله "غرونبيرغ" مرة في رسالة نشرت عام 2005 ما إذا كانت وجهات نظره المثيرة والمحرِّضة جلبت عليه مشاكل، فرد بالقول: "لم أجد نفسي يوماً هدفاً لأي نوع من العدوان بسبب مواقفي السياسية أو نتيجة لأي من أفكاري التي تعبّر عن موقف أيديولوجي أو ثقافي... عندما أنتقد توجهاً فكرياً أو أرغب بإبعاد نفسي عنه، فأنا أفعل ذلك فقط كمفكّر يرغب بتوضيح موقفه وليس كغريم أو عدو". وبالنسبة لملايين الشباب، عمل الجابري على التوفيق بين الحداثة والتراث، حسب قول فاطمة المرنيسي. فالشباب يقرؤون أعماله بشغف، وهي تقدم صورة لتاريخ المسلمين بطريقة شكل فيها المنطق وصياغة الآراء الفردية عنصراً أساسياً. كان الجابري عضواً في جيل جيد التثقيف شَهِد أفراده الكفاح من أجل الاستقلال، وأكملوا الطريق، وكان شعاره: "لتكن لديك الشجاعة لاستخدام ذكائك". نُشرت مقدمة لعمله باللغة الألمانية من قبل "بيرلن فيرلاغ" عام 2009، وأوصلتُ نسخة من ذلك المجلد إلى الجابري في شهر مايو الماضي. وكان يرغب برؤية الترجمة الألمانية لكتابه "نقد العقل العربي". أما الترجمة الإنجليزية فمازالت جارية. نتيجة لذلك فإن واحداً من أهم المفكرين العرب لا يٌعرَف عنه سوى القليل في الغرب. إلا أن الكثير من الناس قد يتكلمون عن أهمية الحوار مع العالم العربي. ----- سونيا هيجاسي كاتبة ألمانية ----- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كومن جراوند"