تلقائياً، استخدمت مفردة الجماهير بدلاً من النَّاس، لكني خشيت أن يُساء الفهم من العنوان، وما أكثر النَّاظرين في العناوين فقط، فأبدُو وكأني أطلب حكومةً ثوريةً، مع أن أحوال العراق بحاجة إلى حكومات ثورية، في الثقافة والسياسة وقبلهما الاقتصاد، غير حكومات الانقلابات التي كانت تكثر في خطابها من مفردة الجماهير: "يا جماهير شعبنا"! مع أن الشَعب هو الجماهير! ليس في العربية مثل هذا الجمع، إنما الجمهرة جمعت بالجماهر، وقد جاءت عنواناً لكتاب لطيف للبيروني (ت 440 هـ): "الجماهر في معرفة الجواهر". لا أعلم متى جُمع الجُمْهور بجمع الجموع "جماهير"، ومتى استخدم مرادفاً للعامة! وكان محتكراً لمجتمع الفقهاء، ومعناه أيضاً المرأة الكريمة. وكيف تُرجمت المفردة (republic) إلى جُمْهورية، بينما الجُمْهوري في العربية: نبيذ العِنب! والتجمهر يعني التطاول (القاموس المحيط)! ومَنْ يدري، فلعلَّ ثمة تماهياً بين إغواء الجُمْهور بالهتاف وما قصده الفيروز آبادي من معنىً! أتذكر أن ابن عمَّي، اليساري العنيد، أمين الخيُّون (اُغتيل 1972) أطلق على ابنه البِكر اسم جماهير، ولد وأبواه كانا مختفيين على حافات القصب والبردي، سماه رداً على بيانات إذاعة انقلاب 1963 التي تُستهل عادة: "يا جماهيرنا الأبية"! وشيدوا إذاعة "صوت الجماهير"، وجريدة "الجماهير"، وكأن أبا جماهير أراد بهذا الاسم القول: الجماهير جماهيره! بعد أكثر من عشرين عاماً (1984) عثرت على "جماهير" بعدن، عاصمة اليمن الديمقراطية، يتدرب في كليتها العسكرية مع أنصار الحزب الشيوعي العراقي، حيث التوريث بالعقائد! ومع كنية أبيه (أبو جماهير) المشهورة بين رفاقه ودوائر الأمن، واسمه اللافت للنَّظر، دخل بغداد سراً، وغاب أثره في أقبية الأمن، كذلك اُعدمت والدته بتول الغزالي. هذا مثال حيٌ لتيهنا الجماهيري، الثوري والرجعي، وكم من المصائر لاقت الجماهير العراقية مثل مصير "جماهير"! بعد هذا المستهل، والإطناب عند الجماهير، وما تعلق بذاكرتنا لعقود طويلة، ضاعت بينها الأعمار، وكم أَمَّلتها الحكومات والمعارضات، على حدٍ سواء، بالآمال، وما فقدت من دماء وثروات، أما آن لها أن تستريح بظل حكومة تنتشلها مما هي فيه: خراب عقول، وجوع طال أمده، وسيلحقه العطش بعد جفاف الأرض بجهود الجارين الشمالي والشرقي. حكومة يدعمها الجوار بإسالة الماء، وتجفيف الإرهاب، ولا تساير الجماهير بجهلها من أجل الانقضاض عليها، وبرضاها. إن الحكومة التي يحتاج إليها العراقيون استثنائية، في إنسانيتها وخبراتها، فأمامها تركة ثقيلة تفاقمت بالوزراء وكبار الموظفين الجدد، ليس لمستوى هؤلاء المحدود علماً وإخلاصاً فحسب، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، بل لأنهم غذوا مظاهر التراجع إلى أبعد الحدود، من أجل الفوز بأصوات أكثر، والكل يعلم أن بركان الديمقراطية الذي انفجر وبهذه المفاجأة، وهيمنة الفوضى بلا منطقة وسطى بين دكتاتورية مطبقة وديمقراطية منفلتة، راكم في سوء الحال، وأفقد البلاد توازنها. نتذكر آنذاك الإصرار على الإسراع في الانتخابات، على أساس المحاصصة الطائفية، وكأن لسان حال المتعجلين يقول: ألحقوا الجماهير قبل يقظتها! فكتابة الدستور بأيد ليست ماهرة بكتابة الدساتير، حيث كتبه سياسيون لا حقوقيون، ومنهم مَنْ لا يميز بين التمرة والجمرة بعلم الحقوق، قد لا يمرُّ بهذه السهولة، وهو الذي أردناه "حلاً للمشكلات فكان أكبر مشكلِ"! لابد أن يؤخذ بتشكيل الحكومة المؤملة جانب التكنوقراط في وزرائها، الأكثر خبرة، الأكثر نزاهة، الأوسع وطنية، الأقل طائفية، الأقل ثراءً من منصبه السابق. صحيح أن قانون الانتخابات كان رديئاً، ولا وجود لقانون أحزاب، لكن مع ذلك يمكن التمييز بين معادن الرِّجال، فإذا نظر كلُّ ائتلاف في ما حوله من فواجع وكوارث، بخشية الله وبشيمة الوطن، لا يُرشح لإشغال الحقائب الوزارية التي ستكون من حصته، إلا مَنْ توافرت فيه الشروط، فوزارات مثل التربية والتعليم، والصحة، والتجارة، والنِّفط، لها صلة أكثر بالنَّاس، الأولى تُشكل العراق القادم، والثانية تحفظ الأبدان، والثالثة المعاش، والرابعة مصدر الثروة. صحيح أن الملك فيصل الأول (ت 1933) أراد استبدال: "النَّاس على دين ملوكهم" بما هو يُلين جانب الجماهير: فقال في أول خطاب ملكي: "فالملوك على دين شعوبهم، فعلى قدر التضامن يكون النَّهوض" (خطاب التتويج). بعد النَّظر في ما حصل لأهل العراق، من خواء ثقافي تكدس لعقود من الزمن، وجاء الحصار ليطبق على كل شيء، لا أجد الملك في ما ذهب إليه جاداً، وهو المخلص للعراق والعراقيين والذي نهبت الجماهير قصر حفيده ظلماً، فالنَّاس تحتاج إلى مَنْ يرتقي بهم لا ينزل إلى جهلهم، وهم بهذه الحال المتردية، يرتقي بهم إلى رحاب اجتماعي وثقافي، يلحق به العراقيون بقية الشعوب. وأجد مليكنا على صواب إذا أُخذت العبارة أنه يجوع لجوع جماهيره، ويسهر لآلامه، ويطفئ أنوار قصره إذا عجز من مدِّ أكواخهم بالكهرباء! مسؤولية الحكومة المؤملة، إذا أُفرج عنها بعد خفض الذاتيات، أن ترتفع بالنَّاس إلى الرُّقي من الثقافة والمدنية، لا تساير ما هو موجود من خراب، وأرى عبارة "الناس على دين ملوكهم"، مثلما أوردها ابن الطقطقي (ت 708 هـ)، و"النَّاس على دين الملك"، مثلما أوردها ابن خلدون (ت 808 هـ) واقعية، ليست بادرة استبداد. ذلك إذا بادرت الحكومة، وهي الملك، وسلكت سلوكاً حضارياً، وأفرغت آلة إعلامها مما يثير كراهيةً ويغفل فساداً، بل لها أن تمنع ما يبث من على أرضها من جهالات، لا تكون على مثال سلوك الوزير أبي علي الخاقاني (ت 312 هـ): "يتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد على الطرق، فكان إذا رأى جمعاً من الملاحين، أو غيرهم من العامة، يصلون في مسجد على الشط قَدمَ طياره (زورقه)، وصعد وصلى معهم" (تجارب الأمم). لكنه من جانب آخر كان "سيئ السيرة والتدبير، كثير التولية والعزل، قيل إنه ولَّى في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة، وأخذ من كل واحد رشوة" (الفخري في الآداب السلطانية). حتى قيل في وزارته: "فاتصفت بأفعاله وذُلت"! أقول: لا تتعذروا، فوزراء تكنوقراط، غير كذابين في سيرهم الذاتية وليسوا على مثال الخاقاني، موجودون بين ظهرانيكم! الحلم برئيس حكومة له حكمة فيصل الأول، وذكاء نوري السعيد، ووقار محمد الصدر، وعراقية سعيد قزاز، ونزاهة عبدالكريم قاسم، وليبرالية عبد الرحمن البزاز. إنه مجرد حلم ولا حرج على حالم!