تهديد رئيس الوزراء التركي بمراجعة الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل ليس كله لأسباب إنسانية؛ فهو رجل سياسة ويعمل لخدمة شعبه ووطنه. وليس هذا الكلام جديداً أو وليد ردة الفعل على حادثة "قافلة الحرية". وأردوجان يعي تماماً الخطوات التي يقوم بها تجاه حصار غزة، ليس الآن فقط بل منذ أيام منتدى دافوس الاقتصادي، ويعرف أيضاً كيف يمكنه أن يخاطب الشعب العربي والإسلامي فهو يعيد بناء "الدور الإقليمي" لتركيا. وبالتأكيد، فإن أولوياته ليست للمصالح العربية، حتى إذا قرب العرب تركيا واستذكروا معه العهد العثماني واعتبروه داعماً إقليمياً لهم، بعد أن تمددت إيران في كل الدول العربية، فصار التوجه نحو تركيا من أجل إعادة التوازن الإقليمي للمنطقة. والذي يعمله الآن أردوجان هو استغلال "النجاح" الداخلي والفوز الإقليمي الذي توج بدبلوماسية "اتفاقية التبادل النووي" مع إيران، التي أثارت العالم، لكن من دون اتخاذ أي موقف سياسي حقيقي. ما فعله أردوجان بـ"قافلة الحرية" لم يكن سوى التوجه شرقاً والدخول في تعقيدات المنطقة بشكل كامل، وقد كان محتاجاً إلى خطوة حقيقية. وطالما اتفقنا على أن القضية الفلسطينية شأن كل المسلمين، فما المانع أن يكون مدخله من "غزة"! وأعتقد أن لحظة الصدام التي حصلت كانت منتظرة ومخططاً لها، وكان أردوجان يحتاجها كي يحصل على دعم الشعب التركي، ليراجع الاتفاقيات مع إسرائيل، فهو يخطو خطوات مدروسة. واليوم أغلب الشعب التركي معه ضد إسرائيل، وكذلك الشعب العربي أيضاً، وهذا كله ليس صدفة. الدولة التركية لا يمكن أن تخسر الكثير من الاتفاقيات بسبب "غزة" أو العرب دون أي مردود سياسي، وإلا كان الأمر خطأً سياسياً. الأمر مرتبط بأن المنطقة العربية تعاني فراغاً سياسياً حقيقياً لابد من ملئه. واللافت في الأمر أن ردة الفعل العربية تجاه ما حصل لقافلة الحرية ولتركيا أيضاً لم ترقَ إلى المستوى المتوقع أن تكون عليه مع دولة تدعم القضايا العربية، إلا إذا كنا نتوهم أن ما تفعله تركيا هو من أجل العرب، وللعلاقات التاريخية والمذهبية بينهم، خاصة وأن أردوجان كثيراً ما استخدم خلال خطاباته مفردات تؤكد أن تركيا "غير"، وأن عداءها له ثمن. والغير الذي يقصده أردوجان ليس الغرب ولا الآسيويين ولا الأفارقة، وإنما يقصد به العرب. المشكلة هنا أنه من واقع المتابعة الإعلامية لما يكتب من تعليقات في الصحافة العربية حول الموقف التركي الحالي، يتأكد أن العرب لا يكفون عن ارتكاب أخطائهم الأزلية في حق من قد يكونون حلفاء لهم، ومن بقايا مناصريهم. فالنقطة البارزة أن العرب تخلوا عن دعم تركيا في مواجهة إسرائيل. بل الأغرب من ذلك أن لغة الشماتة والاستهزاء كانت واضحة في العديد من المقالات. ونسي العرب أو تناسوا أن تركيا وقفت إلى جانب قضيتهم، وإن لم يكن ذلك مجاناً، ولكن من باب "عدو عدوي صديقي!". الثقافة العربية قائمة على لوم الآخرين بأنهم سبب مشاكلهم بدءاً من المستعمر ومروراً بالحلفاء ووصولاً إلى دول الجوار، دون أن يتحركوا لتصحيح أوضاعهم. لكن المصيبة أن يتخلى العرب عن مساندة من تفاعل مع قضيتهم فقرروا "تأديب" تركيا وتلقينها درساً على تدخلها في قضاياهم ومواقفها الداعمة لهم، فجاءت تصرفاتهم مؤذنة بفقدان صديق أو حليف جديد.