أعود إلى موضوع مثقف الدولة الذي انقطعت عنه. كنت قد ختمت آخر مقالة حول الموضوع بالقول "إن الوهابية، باعتبارها حركة سلفية، حاربت مختلف أشكال الخرافة والشعوذة في الثقافة الشعبية، واعتبرتها شكلاً من أشكال الشرك. وركزت بدلاً من ذلك على مفهوم (التوحيد) بمعناه التجريدي. وهذا يعيدنا إلى (توحيد الألوهية)، الذي لا زال ينتظر حديثاً آخر". وها أنا أعود إليه بعد أن تأجل أكثر من مرة بسبب استطرادات، وتوضيحات فرضها سياق الحديث. لابد من التأكيد على أننا لن نتناول التوحيد هنا وفقا لمنهج ما يعرف في العلوم الدينية "بعلم أصول الدين"، أو "علم الكلام". ما سنفعله هو إخضاع هذا المفهوم لمنهج العلوم الاجتماعية، وذلك للكشف عن الامتدادات الاجتماعية والسياسية للمفاهيم الدينية، وأنه لا يمكن أن يكتمل فهمنا واستيعابنا لهذه المفاهيم إلا إذا ما أخذت ضمن إطارها الأشمل، وتم تحريرها من أطرها الدينية الضيقة. لماذا من المهم تناول موضوع توحيد الألوهية بشيء من التحليل؟ كنت قد أشرت من قبل بأن حديثي عن مثقفي الدولة السعودية في مرحلتيها الأولى والثانية سوف يقتصر على الكتابات السياسية، أو الكتابات ذات البعد السياسي لهؤلاء، وذلك نظراً لأن هذه الكتابات لم تحظ بما تستحقه من اهتمام. وفي هذا الإطار، كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهو المثقف الأول للدولة الأولى، أو عميد مثقفيها من العلماء، هو الذي جعل من توحيد الألوهية المفهوم المركزي لحركته، ولكتاباته، مما يدل على الأهمية التي كان يوليها لهذا المفهوم. كان المعنى الديني للتوحيد، وتحديداً توحيد الألوهية، هو مصدر أهمية هذا المفهوم بالنسبة للشيخ. ولذلك جاء تعريفه لهذا النوع من التوحيد بأنه "إخلاص العبادة لله وحده، وعدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله". لكن بشيء من التمعن يتكشف أن هذا المضمون الديني للتوحيد ليس إلا بعداً واحداً، على أهميته، مما ينطوي عليه من مضامين اجتماعية وسياسية. من بين أنواع التوحيد، يمكن القول بأن "توحيد الألوهية" هو الصيغة الوحيدة التي تتوجه إلى وحدة المجتمع، وبالتالي تنطوي على بعد سياسي واضح يتداخل مع بعده الديني. وكما هو واضح فإن توحيد الأسماء والصفات يخص الذات الإلهية، وتوحيد الربوبية كما سنرى يخص العلاقة المباشرة، من دون وساطة، بين الله والإنسان. أما توحيد الألوهية فهو يخص ليس فقط علاقة الإنسان بالله، بل يشمل أيضاً علاقة الإنسان مع غيره، وعلاقته مع المجتمع والدولة. من هنا فعلاقة الإنسان بالله في توحيد الألوهية ليست علاقة مباشرة تماماً، وإنما تمر عبر وسائط اجتماعية وسياسية. هناك مسألة أخرى تؤكد أهمية توحيد الألوهية، خاصة فيما يتعلق بموضوعنا، وتتمثل في أن تأكيد الشيخ على الأهمية القصوى لاستيعاب معنى توحيد الألوهية، وتمييزه عن توحيد الربوبية، والالتزام بما يقتضيه ذلك من ابتعاد عن الشرك، يتناغم تماماً مع الحاجة القصوى التي كانت لمجتمع الحاضرة في نجد حينها للتوحيد السياسي أمام حالة الانقسام وعدم الاستقرار التي كانت تعصف به عندما ظهرت دعوة الشيخ. قد لا نستطيع أن نقرأ بدقة ما كان يفكر فيه الشيخ عندما أطلق دعوته في تلك الظروف، وعلى هذا النحو، لكن تطابق دعوته إلى التمسك بالتوحيد بمعناه الديني، مع حاجة المجتمع في الوقت نفسه إلى التوحيد السياسي، له دلالته التي لا يمكن التغافل عنها أو التقليل من أهميتها. هذا التناغم بين دعوة الشيخ ومتطلبات الظرف السياسي للمجتمع، يوحي مباشرة بأن الدعوة كانت بشكل ما استجابة لذلك الظرف السياسي، ما يؤكد المضمون السياسي لـ"توحيد الألوهية"، وإن كان يتوارى خلف المعنى الديني المباشر لهذا المفهوم. هنا تجب العودة مرة أخرى للتمييز السائد بين "توحيد الربوبية" و"توحيد الألوهية". توحيد الربوبية هو الإيمان (بأن الله هو الخالق والمدبر لهذا الكون). ومن ثم يتضح أن هذا النوع هو الصيغة الدينية الصافية للتوحيد، لأنها تنشئ علاقة مباشرة بين الله والإنسان. يؤمن الإنسان بالله على هذا المستوى من دون أية تدخلات من قبل أي فرد أو مؤسسة من مؤسسات المجتمع. وبما هي كذلك، فهي علاقة محصورة في طرفيها، وتنحصر معرفة طبيعتها وحقيقتها بطرفيها فقط، الله الخالق، والإنسان المخلوق. أما توحيد الألوهية، من ناحية أخرى، فهو ينشئ علاقة مختلفة. بالرجوع إلى تعريف توحيد الألوهية نجد أن العبادة هي أساس العلاقة التي ينشؤها، والتي ينبغي أن تكون بين الله والإنسان. على مستوى المعتقد، أو المستوى النظري قد تكون هذه العلاقة دينية ومباشرة. لكن على المستوى العملي، العلاقة ليست كذلك، وإنما تتسع لما هو أكثر من ذلك. وهذا عائد لحقيقة أن "العبادة" كمفهوم لا تقتصر على الممارسات والطقوس الدينية المتعارف عليها، مثل الدعاء والصلاة والزكاة والحج، وإنما هي مفهوم يتسع لأمور أخرى كثيرة. هناك أعمال، حتى وإن كان المجتمع لا ينظر إليها كذلك، فإنها تدخل ضمن إطار العبادة أيضا: مثل العمل، والتربية، والإنتاج، والتجارة، وخدمة المجتمع. بل إن عمارة الأرض، كما هو متعارف عليه، هي المقصد الثاني للإسلام، بعد المقصد الأول، وهو العبادة. وبما أنهما مقصدان لا يكتمل أحدهما، ولا يكتمل دوره من دون الآخر، فإن العمارة تصبح هي الأخرى شكلاً من أشكال العبادة. وتدخل في هذا الإطار الواجبات السياسية للفرد، كما يقررها علماء الشريعة. من هذه الواجبات بيعة ولي الأمر، وهي واجب نابع من قول النبي صلى الله عليه وسلم "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". يوحي هذا الحديث، وإن بشكل غير مباشر، بأن إيمان الفرد وإسلامه، وأداءه للعبادات خارج إطار الدولة لا معنى له، وليس له مردود. كأن الإسلام الحقيقي (مهما كان معنى ذلك) لا يتحقق إلا داخل الدولة، وعلى أساس من الإيمان بشرعيتها، وكذلك الأمر بالنسبة للعبادة الحقيقية المجزية. وربما ينبغي هنا أن نلاحظ أيضاً أنه من الناحية التاريخية لم يكن هناك وجود للإسلام خارج الإطار السياسي للدولة. ومن الواجبات السياسية أيضاً، وحسب العلماء مرة أخرى، طاعة ولي الأمر، شرط أن لا تكون في معصية الخالق. وهذا واجب أكدته أحاديث عدة، لكن الأهم هنا الآية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..."، حتى الزكاة يؤدى بعضها، أو أغلبها أحياناً للدولة. ومن المعروف أن الخليفة أبا بكر حارب المرتدين بسبب امتناعهم عن الزكاة. والحج، يتم تنظيمه والإشراف عليه منذ القدم من قبل الدولة. كل هذه الأمثلة وغيرها هي عبادات تتأسس عليها علاقة الإنسان المسلم مع الله. ولهذه العبادات وجه دنيوي، اجتماعي أو سياسي، كما أن لها وجهاً آخروياً. وبالتالي فالعلاقة التي تقوم على أساس منها بين الله والإنسان ليست مباشرة تماماً، وإنما لابد أن تمر عبر مؤسسات المجتمع والدولة. وهذا تحديداً ما يؤكد البعد السياسي لتوحيد الألوهية. والحقيقة أن الشيخ عبدالله العنقري، أحد علماء الدولة السعودية الثالثة (ت 1373هـ/ 1953م) اختصر كل ذلك في جملة موجزة عندما قال: "من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة." (الدرر السنية، ج9، ص61). ومعنى ذلك أن وجود الدين، وتحقق الإيمان به، وتطبيق أوامره ونواهيه على الوجه المطلوب، مرتبط عبر الجماعة بالإمامة. بعبارة أخرى، لا يمكن أن يتحقق توحيد الألوهية إلا إذا تحققت الوحدة السياسية، وقامت الدولة، وتحققت الطاعة. ولعل هذا يكشف لماذا اقترنت طاعة الله في الإسلام، بطاعة ولي الأمر في غير معصية الله، مما يعني أن معصية ولي الأمر قد تؤثر سلباً على إيمان الفرد، وعلى أعماله أيضاً. ويبقى أن نعرف شيئاً عن الرؤية السياسية للشيخ محمد عبدالوهاب، وموقفه من كل ذلك. وهذا حديث الحلقة القادمة.