الجانب المحير قبل حدوث بقعة "بريتش بتروليوم" النفطية في مياه خليج المكسيك قبل بضعة أسابيع هو أن الحفريات النفطية في المياه العميقة بدت كما لو كانت إنجازاً تكنولوجياً عظيماً. والحقيقة أن نسبة تقدر بنحو 80 في المئة من الإنتاج النفطي الذي تحقق مؤخراً في خليج المكسيك، كان مصدره الحفريات التي أجريت في مياه الخليج العميقة. وحسب التعريف العلمي لهذه المياه، فإن الشرط أن يتجاوز عمق هذه المياه الألف قدم على أقل تقدير. وحتى عام 1996 كانت كمية النفط المنتجة في هذه المياه لا تزيد عن 20 في المئة فحسب. غير أن منصات النفط الحديثة العميقة التي تنصب على بعد بضع مئات من الأقدام تحت سطح المياه، وفرت رافعة تكنولوجية جديدة متحركة لوحدة الإنتاج البحري بالشركة. وتعمل هذه المنصات الحديثة بالتداخل بين الأقمار المستخدمة في تحديد المواقع العالمية والمحركات المثبتة في منصة الحفريات، حيث تعمل المحركات على تنشيط أجهزة تحديد الاتجاهات ورصد التيارات البحرية والرياح. في الوقت نفسه حققت تكنولوجيا روبوتات رصد الزلازل تقدماً ملحوظاً في هذا المجال. ولم تكن منصة الحفريات العميقة التي استخدمت مؤخراً في خليج المكسيك تعمل على اختبار حدود جديدة ممكنة للحفريات فحسب، بل كانت تحفر فعلياً في عمق حوالي 5000 قدم تحت سطح البحر، بينما تمكنت تكنولوجيا أخرى من الوصول إلى 10 آلاف قدم. وحسب ما أصدره "معهد النفط الأميركي" باعتباره المؤسسة التجارية الرئيسية، فقد تمكنت شركات حفريات النفط من حفر ما يزيد على 42 ألف بئر في خليج المكسيك منذ عام 1947، بينما تمكنت من إنتاج نحو 16.5 مليار برميل نفطي. وخلال الفترة نفسها بلغ إجمالي البقع النفطية المتسربة من هذه العمليات حوالي 176 ألف برميل منذ عام 1996 وحتى عام 2007. وبالمقارنة يقدر حجم الإنتاج النفطي مؤخراً في خليج المكسيك بحوالي 1.6 مليون برميل يومياً. لكن سياسات شركة "بريتش بتروليوم" الهادفة إلى خفض تكلفة الإنتاج، وكذلك إهمال المسؤولين عن تشغيل منصة الحفريات، مضافاً إليهما ضعف النظم القانونية المتعلقة بهذه العمليات، كلها تعد عوامل محتملة ساهمت في الكارثة الحالية التي يشهدها خليج المكسيك. وقد عين أوباما لجنة للتحقيق فيما حدث وتحديد أسبابه، بينما فتحت وزارة العدل ملف تحقيق جنائي حول الكارثة. ومن المتوقع أن تخضع هذه المسألة لتحليلات مكثفة، بيد أن التناقض الواضح بين حجم الكارثة وسجلات نقاط السلامة السابقة، ربما يكون سبباً آخر من أسباب ما حدث. والمقصود بهذا هو أن النجاح الذي حققته عمليات الحفريات النفطية في المياه العميقة قد انتهى إلى فشل يعترف به الجميع. وهنا أيضاً شهدنا نهايات الثقة المفرطة، والعمى عن المخاطر بسبب استمرار النجاحات والإنجازات المتحققة. وبالمقارنة فقد امتد هذا النمط -النجاح-الفشل- إلى انتكاسات قومية في مجالات أخرى عديدة. فلنا أن نتأمل الأزمة المالية التي حدثت عام 2008. فلم يكن السبب الحقيقي وراءها هو الرهن العقاري ولا الديون المسمومة، بل كانت وراءها رغبة المستثمرين الماليين الأذكياء في الاحتفاظ بالأوراق المالية المسمومة، وتجاهل المخاطر المعقدة التي ينطوي عليها الاحتفاظ بتلك الأوراق. غير أن ذلك السلوك كان مفهوماً وله آنذاك ما يبرره. فقد كان اقتصادنا القومي حينها أقل عرضة للمخاطر، بينما انخفضت معدلات التضخم. ومنذ عام 1982 لم يمر اقتصادنا بركود يذكر سوى حالتين خفيفتين في عامي 1990-1991. وفي الوقت نفسه اتسمت أسواق البورصة والسندات والكمبيالات بقدر كبير من الاستقرار، بينما لم تشهد الأسعار اليومية تقلبات كبيرة مفاجئة. وطالما أن الاقتصاد والأسواق أصبحا أقل خطورة، فليس هناك ما يمنع التجار والمضاربين من الدخول في مغامرات وعمليات أشد خطورة على أمل زيادة أرباحهم. وهذا ما حدث بالفعل، فتعرض اقتصادنا وأسواقنا إلى مخاطر جمة. من ذلك نستنتج أن الاعتقاد السائد في الماضي باستقرار اقتصادنا القومي وقوة أدائه، شجع كثيراً المغامرين الذين تسببوا في تهديد جدي للاستقرار القومي في المستقبل. ولك أن تنظر إلى فضيحة شركة تويوتا أيضاً. فهي من شركات السيارات القليلة التي تمتعت بسمعة عالمية تحسد عليها. وقد كان أداؤها جيداً بانتظام في كافة الدراسات واستطلاعات الرأي العام التي تجري عن رضا الجمهور عن منتجاتها، ومدى إمكانية اعتماده على تلك المنتجات. وتفسر هذه الثقة السائدة داخل الشركة وخارجها بطء استجابتها للمشاكل المتعلقة بنظام السرعة والمكابح في بعض منتجاتها. وقد ساعد ذلك البطء عدم اتخاذ المسؤولين الحكوميين في الدول موقفاً حازماً من هذه المشاكل التي تهدد حياة مواطنيهم الذين يستخدمون هذه السيارات. والحقيقة أنه قد استخف بهذه المشاكل لأنها لا تعني شيئاً بالمقارنة إلى سمعة تويوتا التي لا يشكك فيها أحد. من هنا نعود تارة أخرى إلى بقعة النفط التي تسببت بها شركة "بي. بي" في خليج المكسيك. ولعل إحدى النظريات التي أحاطت بهذه البقعة، الافتراض بتعقيد تكنولوجيا الحفريات النفطية في المياه العميقة والخطورة التي تنطوي عليها، إلى درجة يصعب فهمها أو تنظيمها. وفيما يبدو فقد كانت سجلات السلامة السابقة لهذه الكارثة مطمئنة إلى حد كبير. ولكن المشكلة هي انهيار ذلك النظام بكامله. فقد كان هناك إهمال في تشغيل منصة الحفريات، بينما تواطأ المسؤولون عن تنظيم هذه الأنشطة والعمليات مع شركات النفط فيما يبدو. ويتوقع أن تكشف التحقيقات الجارية عن تفاصيل ما حدث، غير أنه ليس متوقعا لهذه التحقيقات أن تكشف النقاب عن السبب الرئيسي للكارثة: أن النجاح يقود إلى الفشل والإهمال في أدائنا الاقتصادي. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"