"المساواة في الراتب الآن! المساواة في الراتب الآن! هكذا ترددت أصداء الهتاف مخترقةً نافذة غرفة الفندق الذي كنت أقيم فيه في أوسلو. كانت الهتافات صادرة من متظاهرين يتجمهرون أمام مبنى البرلمان النرويجي القريب من الفندق. تمتمتُ بيني وبين نفسي متسائلا في دهشة: هل هذا معقول؟ وهل يمكن أن تكون هناك إضرابات في "جنة الله على أرضه"، كما يسمونها؟! فالنرويج ليست واحدة من أغنى دول العالم فحسب، وإنما هي أيضاً واحدة من الدول الأكثر تطبيقاً لمبادئ العدالة والمساواة، ولديها نظام رفاه يعتبر موضع حسد للديمقراطيات الاشتراكية، كما تأتي على رأس قائمة دول العالم قاطبة في "مؤشر التنمية البشرية" الذي تصدره الأمم المتحدة كل عام. والنرويج بالإضافة إلى ذلك، دولة حرة، غنية، مسالمة، موفورة الصحة.. إلى آخر ما هنالك من صفات إيجابية يمكنك أن تطلقها عليها. وليس هذا فحسب بل إنها دولة نجحت، حتى في ظروف العسر الاقتصادي العالمي، في تحقيق معدل نمو يزيد عن 9 في المئة كما تمنح 1 في المئة تقريباً من ناتجها القومي الإجمالي في صورة إعانات ومساعدات للدول الفقيرة، مما يعني أنها دولة فاضلة وسخية أيضاً. وسأذكر في هذا المقام، أن المؤلفين "ريتشارد ويلكينسون" و"كيت بيكيت" يستشهدان في كتابهما المعنون: "مستوى الروح: لماذا يكون أداء الدول التي تسود فيها المساواة أفضل في الغالبية العظمى من الأحوال؟" بمثال النرويج عدة مرات، لتوضيح العديد من الأشياء الطيبة التي ترافق العدل والمساواة دائماً. كما يستشهد بها أيضاً الكثير من المحافظين البريطانيين المتشككين في جدوى انضمام بلادهم للاتحاد الأوروبي، وللدلالة على أن أحوالها كانت ستصبح أفضل بكثير فيما لو تركت أوروبا، أو لم يصوت شعبها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كما فعلت النرويج عام 1972، وعام 1994. سيقول البعض: "إنه كلام فارغ"! هكذا سيصيح من يرون أن المفتاح لكل ذلك هو النفط. ففي رأيهم أن النرويج تمكنت من إدامة نموذج دولة الرفاه القائمة على المساواة و العدل، بسبب إنتاجها الغزير من النفط، والعوائد الهائلة المتحصلة من وراء تصديره، والتي تتراكم بشكل متصل لتساعدها على تكوين ثاني أكبر صندوق سيادي في العالم كله في الوقت الراهن (440 مليار دولار). وإذا ما استمر رصيد هذا الصندوق في التزايد فإنه سيكون قادراً على تغطية الالتزامات المستقبلية للسكان المتقدمين في السن، وهو شيء يندر حدوثه في أوروبا عامة. ولذلك، ووفقاً لما يراه أنصار استخدام مصادر الوقود الأحفوري العمليون، فإن الوسيلة الوحيدة للتمتع بمزايا هذا النمط من الدولة الاشتراكية الديمقراطية هو الاستمرار في الحفر بلا توقف، وإنتاج أكبر كمية من النفط، وبيعه للخارج! ومعنى هذا، استطراداً، أن سعادة النرويج وفقاً لهذا الرأي تتم على حساب الإسهام في زيادة الاحتباس الحراري -إن جاز التعبير. وهناك تفسير ثالث لرخاء النرويج وسعادتها وهو أن ذلك الرخاء والسعادة يرجعان إلى طبيعة الشعب النرويجي ذاته، فهو شعب صلب، معتمد على ذاته، محب للعمل الشاق، يتسم بروح التعاضد والتآزر الجماعي التي تجد لها تمثيلا تاريخيّاً في تاريخ أجداده "الفايكنج" الأسطوريين. ومما يعضد هذا الرأي أن النرويج، كانت تؤدي اقتصاديّاً على خير ما يكون الأداء قبل أن تكتشف النفط في ستينيات القرن الماضي، وعندما كانت لا تزال دولة أوروبية لا تختلف عن غيرها في الاعتماد على صناعة الشحن البحري، وتصدير الأخشاب، والأسماك، والسلع المصُنّعة. والحال أنني شخصيّاً لا أعرف الكثير عن النرويج، بما يمكنني من تحديد أي من تلك التفسيرات هو الصحيح وأيها خطأ على وجه الدقة، ولكنني أعتقد، على كل حال، أن النرويج تقدم نموذجاً جيداً على الطريقة الخاطئة، والخطرة في آن، إذا تم من خلالها استخلاص الدروس بطريقة مفرطة في التبسيط من تجارب دول معينة، ومحاولة تطبيقها بعد ذلك على دول أخرى، دون أن تكون الظروف المحلية ملائمة لذلك. وعندما كنت أفكر في هذه المعضلة، سمعت في أوسلو هتافات أخرى تتردد وتصلني أصداؤها. كانت الهتافات هذه المرة تقول: "قاطعوا إسرائيل، حرروا الفلسطينيين"! وكان سببها تلك الغارة التي شنتها إسرائيل في الليلة السابقة على "أسطول الحرية". ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أنه حتى الدول البعيدة، وسعيدة الحظ مثل النرويج، ليست منيعة على الموجات الصادمة للسياسات العالمية. فالنرويج دولة تسعى جاهدة مثل غيرها من الدول الأوروبية لدمج سكانها المسلمين الذين يتزايدون عدداً في نسيجها المجتمعي، وهي دولة تعتمد على استيراد حاجاتها من الأسواق الأوروبية وعلى تصدير سلعها إليها، علاوة على أن صندوق معاشها الوطني الضخم يعتمد اعتماداً كبيراً على أداء أسواق الأوراق المالية العالمية. ولكن إذا مضت الأمور بشكل سيئ أو ازدادت الصعوبات في باقي دول أوروبا، فإن النرويج قد تواجه موجة معاكسة من "الفايكنج" العصريين الباحثين عن عمل وعن مزايا دولة الرفاه تتدفق على سواحلها الجنوبية السعيدة. ولقد علمت أنه يحق لمواطني دول الاتحاد الأوروبي القدوم إلى هنا والعيش لفترة ثلاثة أشهر، وهي فترة تكفي بالتأكيد للبحث عن وظيفة مناسبة. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "أم. سي. تي. إنترناشيونال"