لم يكن "هيرودوت" بعيداً عن الحقيقة عندما قال: إن مصر هبة النيل.لقد شاهد هذا المؤرخ القديم أرضاً تحيط بها الرمال من كل جانب، رمال لا يتوقف توسعها شمالاً وشرقاً سوى عندما تصدم بالماء المالح، لكن معجزة إلهية حدثت وسط الرمال منذ بلايين السنين، عندما انساب ماء زلال من أعالي هضاب القارة السوداء المنهمرة عليها ماء السماء في أغلب أيام السنة، ولم يلبث الإنسان القديم جداً حتى استزرع الأراضي الخصبة الواقعة على ضفتي النيل قبل أن تلامس مياهه العذبة مياه البحر الأبيض المتوسط المالحة.. ليكون هذا الإعجاز الرباني أرضاً اسمها مصر. كان كلام المؤرخ اليوناني مطابقاً للحقيقة إلى أن جاء منتصف شهر مايو لعام 2010م لتكون مصر هبة النيل ورهينته أيضاً. قبل أيام كنت مسافراً من مصر إلى لبنان بطائرة صبح يومٍ ربيعي، أخذت الطائرة مساراً استطعت من خلال النافذة أن أرى مشهداً غاية في الروعة: دلتا النيل بفرعيها من الماء الذي طالما روى عطش ملايين البشر وأسكت جوعهم، يعانق المياه الزرقاء شديدة الملوحة. من ذلك العلو رأيت هذا المنظر البديع الساحر.. خط من الماء يقسم الصحراء، ثم فراسخ معدودة من اليمين والشمال، عبارةٌ عن زراعة شديدة الاخضرار، ثم بعد ذلك موت الصحراء ووحشية البحار، وبين هذا وذاك يعيش الملايين من البشر في رقعة من أخصب بقاع الأرض.. كل ذلك يهديه النيل ورب النيل. لكن هذا المشهد الذي لا يُنسى هو سببٌ لغضب الأمم الأفريقية الأخرى التي يمر بها النيل أو ينبع من جبالها، شاجبةً تنعم مصر بهذا الخير الوفير، ولتوقع تبعاً لذلك الغضب معاهدة جديدة لتقاسم جديد لمياه النيل، تُقتطع بموجبه نسبة كبيرة من الـ55 في المئة من المياه الجارية التي كانت مخصصة لمصر منذ سنوات طويلة. وأكاد أجزم أن صانع القرار المصري والباحثين العارفين ببواطن أمور شريان الحياة الأول (الماء) أدركوا أن هذه الاتفاقية هي أخطر من غزوات (الهكسوس) والاحتلال (الإسرائيلي) ومحاولات بذر الفتن الإرهابية في داخل مصر، لأن كل الغزاة والمحتلين ذهبوا إلى غير رجعة، والفتن أمكن إطفاء نيرانها الخطرة.. لكن مسألة الماء وتعطيش مصر شيء آخر مختلف تماماً. لنتفق على مسلّمات منها: إن مصر بالفعل أسرفت في استهلاك الماء في الاستعمالات الآدمية غير الرشيدة وفي الزراعة ذات الوسائل القديمة في الري والسُقيا للمحاصيل المختلفة المستهلكة للمياه، أما المسلمة الأخرى فهي أن هذا الخطأ المصري المزمن لا ينبغي أن يقابل بخطأ أفريقي مقابل يهدد أمن مصر المائي وينسف من الجذور مقولة المؤرخ اليوناني القديم، وكل دلالات علم الجغرافيا السكانية هناك، وكل عبقريات المرحوم جمال حمدان التي كتبها حول تفرد مصر موقعاً وسكاناً.. ونيلا! ماذا أمام مصر لتفعله تجاه تحديات الماء القادمة؟ أمامها ثلاثة سُبلٍ في رأيي: الأول منها يتمثل في قصف وتدمير أي سدود تُقام على مجاري النيل من قِبل دول حوض النيل الأفريقية، والطيران الحربي المصري قادرٌ على هذا، لكن هذا الخيار له سلبيات عظيمة دوليّاً وإقليميّاً، ويمكن أن تترتب عليه عقوبات مختلفة بحق مصر من قِبل الأفارقة وحتى من قِبل الأمم المتحدة التي ستبادر لهذه الإجراءات التأديبية متى ما شعرت القوى الكبرى بأن مصر في حاجة لمجموعة عقوبات مثلها مثل بعض الدول العربية الأخرى من قبل، إلى حين تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.. وما أكثرها. أما الخيار الثاني فهو الاتصال بالدول المانحة والـمُقرضة لبناء السدود الأفريقية وتحذيرها، وهي في الغالب أوروبية أو من الولايات المتحدة الأميركية، من دعم تحرك كهذا يضر بالمصالح العليا والإنسانية لمصر، ولا أظن أن المؤسسات المالية الأوروبية والأميركية ستستجيب للطلب المصري في حالة وجود بدائل تستثمر من خلالها أدوات الإقراض الدولية في أنشطة ربحية مثل مجالات بناء السدود التي ستكون تكلفة الدَّين عليها مرتفعة تسددها مطلع كل عام الدول الأفريقية، وهذا ما تريده البنوك والمؤسسات المالية الدولية في أيام قلت فيها مواردها المالية إثر صعوبات الائتمان حول العالم. ويمكن أن تكون هناك استجابة إن طلبت مصر من شقيقاتها دول الخليج العربية التدخل لدى تلك المؤسسات المالية وإقناعها بخطورة ما تقوم به، مع الشك أيضاً بمدى فاعلية هذا التحرك المصري في الاتجاهين المشار إليهما في الخيار الثاني. أما الخيار الثالث وهو الأنسب -في رأيي المتواضع- فيتمثل في الاتصال مرة أخرى بالدول الأفريقية المعنية وطرح أفكار مصرية جديدة حول وسائل مبتكرة لترشيد استهلاك المياه في مصر، وأن هذا الترشيد سيعود بالفائدة آليّاً على حصص دول حوض النيل الأفريقية، فكل متر مكعب يمكن أن توفره مصر عندما تعتمد على وسائل ري متقدمة يتعاظم به مخزون المياه للدول الأخرى المستفيدة من نهر النيل، وعلى مصر أن تشرح لشقيقاتها الأفريقيات عزمها على توسيع حملاتها الإعلامية لترشيد استهلاك مياه الشفة مع تقنين توزيع المياه على المدن والمحافظات المصرية. وكل هذا يمكن مع الاتصالات عالية المستوى أن يُقنع الدول الأفريقية التي وقعت اتفاقية توزيع مياه النيل مؤخراً بأن مصر قدمت ما يمكن تقديمه في الشأن المائي، وأن هذه الحلول المصرية يمكن أن تزيد بالتالي حصصها المائية من شريان الحياة الأول لشعوبها دون إلحاق الضرر بمصر، وهو ضرر يعادل إن لم يكن أسوأ، من ضرب السد العالي بالقنابل النووية. ولعل ما حدث لمصر ومن دولٍ (كانت) محسوبة عليها، يُعطينا دلالة على أن حرب المياه لن تخضع لمقاييس الإخاء والصداقة والجيرة، إنها حرب لضمان البقاء أو الموت، حربٌ ليست فيها أيام هدنة أو اتفاقية سلام عندما تسوء النوايا ويُوضع الجميع أمام الخيارات الصعبة. ما حدث لمصر هو إنذار لبقية الدول العربية التي تعتمد على موارد مائية تنبع في دول أخرى، وبالتالي تتحكم في مناسيب وجريان وتدفق مياه الأنهار، ولابد من الآن فصاعداً أن تهتم هذه الدول وخاصةً سوريا والعراق بوضع استراتيجية تفاوض مع الجار التركي حول المياه، وهذا أكثر إلحاحاً من التفاوض معه على إدارة منافذ الجمارك أو التباسات الحدود المتداخلة؛ ماذا -مثلاً- لو أن تركيا بنت مزيداً من السدود العملاقة الجديدة بحجة إيجاد مصادر آمنة ووفيرة للمياه لشعب يتكاثر بنسبة عالية، ويشهد طفرة اقتصادية غير مسبوقة؟! الأكيد أن مناقشات من يكلف بتشكيل الحكومة الجديدة في العراق، أو جدليات لمن تعود له مزارع شبعا، ستكون أمراً هامشيّاً قياساً لفتح صنابير المياه في دمشق وبغداد، ثم إقفالها مرة أخرى دون أن تنـزل قطرة ماء احتجزت من قبل خلف سدود الدولة الشمالية.. الشقيقة! لكن هذه الأزمة المصرية الأفريقية الجديدة لها فوائد في المقابل: فهي بالتأكيد ستزيد من التقارب المصري السوداني في مواجهة تكتل دول حوض النيل الأخرى، وعليه فإن جميع محاذير العلاقات الحميمة بين الدولتين يجب أن تُنسف، فالبلدان مقبلان على معركة غير مسبوقة، معركة دبلوماسية وشبه عسكرية، حينما تتعرّى بعض الشيء جوانب الوادي العظيم من الجدب وقلة المياه، والشيء نفسه يجب أن يقوم بين العراق وسوريا، فما فرقته السياسة والمتفجرات والادعاءات بين الفريقين حول المتسبب في برود العلاقة الثنائية، يجب أن يزول -ولو مؤقتاً- ليس من أجل العروبة بل من أجل.. دجلة والفرات. أما لبنان وهو البلد العربي الوحيد الذي تنبع من داخله وتصب في بحاره الأنهار والمجاري المائية العذبة، فإن عليه أن يوجه جزءاً من عائداته -على قلتها- لبناء السدود والاستفادة من تلك المياه الغزيرة لديه، لقد زرت شخصيّاً بعض مناطق البقاع الشمالي في لبنان ووجدتها صحراء قاحلة جراء عدم الاستفادة من المياه التي لا تبعد عن (الصحراء اللبنانية) إلا كيلومترات قليلة جدّاً، ويكفي أن يعرف لبنان حتى وهو يغلي من انتخابات المختارين ورؤساء البلديات، أن إسرائيل تركز أنظارها ليس على "السولدير" والمسابح الباذخة في جونية، ولكن على المياه في جنوب لبنان حيث تدعى أن هناك في الشمال مياهاً لغير شعب، وفي إسرائيل شعب بلا مياه. أما الدول الفقيرة مائياً والمعتمدة على مياه الأمطار وتحلية مياه البحر فإن عليها، والتجربة المصرية الأفريقية غير السعيدة ماثلة للعيان، أن تتذكر أن كل مشروع للاستفادة من مياه الأمطار أو محاولة تقليل الهدر في استعمالات المياه بكل أشكالها، أو استنباط طرق أقل تكلفة ماليّاً وبيئيّاً لمحطات تحلية مياه البحار لديها، كل تلك المحاولات أجدى من شراء دبابة أو طائرة حربية، فلن يستطيع شعب ولا جيش أن يحارب وقد هلك النسل والحرث عطشاً وراءه. الماء هو الحياة، وقد جعل الله من الماء كل شيء حي، منه تنشأ التجمعات الإنسانية والحضارات.. وإن فُقد تموت.