نعني بالحرب التي لا تنتهي، الحرب الكورية التي مضى عليها الآن نحو ستة عقود، لكن طبولها تقرع ما بين الفينة والأخرى مهددة بتدمير كل ما بنته السواعد الفتية والإرادة الشجاعة والعقول النيرة في منطقة شمال شرق آسيا منذ خمسينيات القرن المنصرم. حيث من المعروف أن الحرب الكورية التي اندلعت عام 1951 واستمرت إلى عام 1953 وحصدت أرواح نحو ثلاثة ملايين عسكري ومدني، لم يوقع حولها معاهدة سلام رسمية، إنما جرى العرف على اعتبارها منتهية بتنفيذ ما اقترحه وزير الخارجية الأميركي الأسبق "دين راسك" على الأرض. وكانت خطة "راسك" الذي كان يشغل وقتها منصب خبير متخصص في الشؤون الإقليمية في وزارة الخارجية الأميركية، تقضي بتقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين متباينتين إيديولوجياً بينهما منطقة منزوعة السلاح بطول 248 كيلومترا: واحدة شمالية متحالفة مع السوفييت وبها جل مكامن الثروات المعدنية التي كان الاستيلاء عليها حلما من أحلام الزعيم السوفييتي الأسبق جوزيف ستالين، وأخرى جنوبية متحالفة مع الغرب وبها أفضل الأراضي الزراعية ونحو ثلث الشعب الكوري حينذاك (24 مليون نسمة). وبطبيعة الحال ليس في منطقة شمال شرق آسيا ما لا يسر الخاطر وما لا يؤذي العين وما لا يوجع القلب سوى نظام "بيونج يانج" الستاليني الحديدي الذي استمرأ المراوغة والمشاغبة والاعتداء والتلويح بالقوة وخرق قواعد وقوانين المجتمع الدولي. ومن الطبيعي أن يلجأ نظام هذا حاله إلى التصعيد كلما لاحت في الأفق بوادر سلام، على نحو ما حدث في أواخر مايو المنصرم. ففي الوقت الذي كان فيه المراقبون يتوقعون من "بيونج يانج" أن تعود إلى طاولة المفاوضات "السداسية" بشأن برنامجها النووي المثير للجدل، فاجأت الأخيرة العالم بخطاب ناري تصعيدي ضد "سيول" على خلفية تقديم الأخيرة دلائل دامغة حول تسبب جارتها الشمالية في 26 مارس الماضي بإغراق البارجة الحربية "تشيونان" التابعة للبحرية الكورية الجنوبية، بما في ذلك قتل بحارتها الستة والأربعين. وبعبارة أخرى، فإنه بدلاً من أن تقوم "بيونج يانج" بتقديم اعتذار إلى جارتها الجنوبية عما حدث، معطوفا على تطمينات بألا يتكرر ذلك مستقبلاً، كي لا نقول تقديم مقترحات حول تقسيم مياه النهر الأصفر الذي يحد البلدين بدقة منعاً لحدوث إشكالات مماثلة في المستقبل، راحت تُحدث كعادتها الضجيج المصاحب للشتائم وإطلاق التهديدات باكتساح أراضي الجنوب، وإعلان حالة استنفار في صفوف جيشها لخوض معركة "التحرير والتوحيد تحت قيادة الزعيم الملهم كيم جونج إيل"، الأمر الذي لم تجد معه حكومة سيول مفراً من الرد. وفي هذا السياق قيل إن حكومة الرئيس الكوري الجنوبي المحافظ "لي ميونج باك" لم تكن تحبذ التصعيد، بل لم تكن تحبذ حتى الإعلان عن أن صاروخاً كورياً شمالياً هو الذي تسبب في إغراق إحدى بوارجها الحربية، كي لا يظهر جيشها أمام الرأي العام أقل مستوى من جيش الشطر الشمالي، وبما ينعكس سلبا على اقتصادها. لكن سيول، كما قيل في أكثر من تحليل، تعرضت لضغوط أميركية وإقليمية فغيرت طريقة إدارتها للأزمة. وبعبارة أخرى تعرضت سيول إلى ضغوط من واشنطن كي تعلن للعالم نتائج تحقيقاتها حول حادثة إغراق البارجة "تشيونان"، من أجل مزيد من التعرية لنظام "بيونج يانج"، ومزيد من ردود الفعل الصلبة إزاء شغب الأخيرة على نحو ما كان الأميركيون دائماً يطالبون به كنوع من الضغط. ومثلما خدمت الأزمة الأخيرة واشنطن، فإنها خدمت اليابان أيضاً، حيث صار الآن بإمكان رئيس الوزراء "يوكيو هاتوياما"- الذي استقال الأسبوع الماضي، أن يستخدمها كبرهان على خطر ألاعيب بيونج يانج في المنطقة، وبالتالي كمبرر للمضي قدماً في اتفاقية مثيرة للجدل مع الحليف الأميركي حول بناء قواعد عسكرية جديدة في "أوكيناوا". أما الرد الكوري الجنوبي على وقاحة "بيونج يانج"، فقد تمثل في قطع أشكال الروابط والاتصالات مع الشطر الشمالي، بما فيها الروابط التجارية والملاحية التي كانت "بيونج يانج" تستفيد منها سنوياً بما لا يقل عن ربع بليون دولار. وأتبعت سيول ذلك بخطط لإعادة ممارسة الدعاية المضادة للنظام الستاليني في الشمال باستخدام مكبرات الصوت عبر خط الحدود الفاصل. تلك الممارسة التي ظلت قائمة لفترة طويلة خلال الحرب الباردة قبل أن تتوقف بتدشين سيول لسياسة "الشمس المشرقة" التي أطلقها الرئيس الجنوبي "كيم داي جونج " عام 1998، والتي لم تثمر حقيقة في تأهيل النظام الكوري الشمالي وتهذيب سلوكه. هنا ردت بيونج يانج بطرد عدد من الرسميين الجنوبيين العاملين في مجمع "كايسونج" الاقتصادي الذي بنته شركات كورية جنوبية متوسطة وصغيرة عبر خط التقسيم من أجل مساعدة بيونج يانج للخروج من أزماتها الاقتصادية، بل هددت بتجميد العمل تماما في المجمع رغم أنه يوظف ما لا يقل عن 40 ألف مواطن كوري شمالي، ويصب في خزينة الشمال نحو 50 مليون دولار سنوياً كأجور لا يرى العمال "الشماليون" منها شيئاً. إلى ذلك هددت بيونج يانج بأن قواتها سوف تطلق النار على مكبرات الصوت الكورية الجنوبية، إذا ما عادت لتحرض جنودها أو "تلوث عقولهم بالشعارات الإمبريالية". الأسئلة التي تتردد الآن بقوة كثيرة، لعل أولها هو عما إذا كانت هذه الخطوات التصعيدية من الجانبين قد تؤدي إلى نشوب حرب كورية جديدة، خصوصاً أن فتيلها موجود ولا يحتاج إلا إلى إطلاق رصاصة واحدة؟، وثانيها هو عن الموقف الصيني من هكذا تطور، لا سيما وأن بكين، التي تعتبر الواجهة الوحيدة التي تطل من خلالها "بيونج يانج" على العالم، سعت دوماً إلى إطفاء الحرائق التي تشعلها "بيونج يانج" بمزيج من دبلوماسية التطمينات ودبلوماسية الاستنكار، وثالثها هو عما إذا كانت "بيونج يانج" ستلجأ إلى استخدام الموظفين الكوريين الجنوبيين في مجمع "كايسونج" كدروع بشرية أو كرهائن من أجل تحقيق مطالبها؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين elmadani@batelco.com.bh