لقد قصد من الخطاب الذي ألقاه أوباما مؤخراً أمام بعض خريجي قاعدة "ويست بوينت" الحربية، أن يكون بمثابة استعراض لاستراتيجية أمنية أميركية جديدة. ولم يكن التعبير عن هذه الاستراتيجية واضحاً من خلال العبارات التي تم توصيلها بها، وإنما من خلال الطريقة التي أوحى بها خطاب أوباما لوسائل الإعلام التي التقطت الرسالة بسرعة. وتشدد هذه الاستراتيجية الجديدة على أهمية التعاون مع الحلفاء والسعي لاستقطاب تعاون الدول الأخرى مع الولايات المتحدة، خلافاً لذلك النهج الأحادي المتعسف الذي تبنته إدارة بوش السابقة، التي بلغ بها الصلف حد مطالبة بقية دول العالم بإعلان موقفها من كل شيء: إما مع الولايات المتحدة أو ضدها. غير أن الأهداف العامة والإطار الذي صيغت فيه هذه السياسة الأمنية القومية الجديدة، لا يختلفان كثيراً عما كانت عليه السياسة الأميركية. والحق أن خطاب أوباما الأخير ردد الكثير من أصداء ما كنا نسمعه سابقاً.. وعبر عقود مديدة من القرن العشرين. ذلك أن أميركا قد أفرطت في تسلحها العسكري، وتعاقبت عليها إدارات وحكومات لا تشبع شهيتها للعمل الحربي، منذ فترات بعيدة سابقة لحرب فيتنام. وعلى حد قول أندرو باسيفيتش -وهو أحد أبرز منتقدي النزعة العسكرية الأميركية- فقد أصبح العمل العسكري كما لو كان هو الاستجابة المثالية الأميركية للمشاكل الدولية. وغدا هذا العمل أشبه بحالة طبيعية لا بديل ولا غنى عنها في الاستجابة لما يطرأ من مشاكل عالمية. ومن فرط سيادة هذه الاستجابة، فقد أخذت بها غالبية الأميركيين على أنها حقيقة لا يطالها الشك! وعلى رغم تكرار أوباما لوعوده بتحقيق النصر، خلال الخطاب الذي ألقاه في قاعدة "ويست بوينت"، فإن المستقبل الذي رسم خطوطه العامة لحربه الأفغانية لا يكاد يختلف في شيء عن الذي مرت به أميركا من قبل في العراق، وهي تجربة يصعب الاطمئنان لنتائجها بالطبع. فمما أكده أوباما قدرة أميركا على هزيمة حركة "طالبان" مجدداً، مثلما فعلت في أواخر عام 2001 بقوله: "إن علينا أن نكسر شوكة تمرد طالبان ونعمل على تدريب قوات الأمن الأفغاني. فقد دعمنا انتخاب حكومة وطنية في كابول، وحملنا بشائر الأمل لأبناء الشعب الأفغاني. ومن واجبنا الآن أن نضمن عدم وقوع بلادهم مرة أخرى بيد أعداء مشتركين لنا ولهم جميعاً". واستطرد أوباما قائلاً: "بينما نواصل خوض حروب نراها أمامنا في الوقت الحالي، فإن علينا أن نتطلع أيضاً لنرى الأفق الذي يمتد فيما وراء هذه الحروب. ذلك أننا، وخلافاً للإرهابيين الذين لا هدف لهم سوى الدمار، إنما يتحدد مستقبلنا بما نبنيه ونعمره. وتتعين علينا رؤية ذلك الأفق، ما يعني ضرورة تبني استراتيجية قومية أساسها التجديد والقيادة الدولية. ثم إن أميركا لم تنجح وتحقق ما حققته عن طريق نبذها للتعاون، بل لقد فعلت ما فعلت بسبب قدرتها على الإمساك بدفة التعاون الدولي وتوجيهها نحو قيم الحرية والعدالة. وهكذا تنهض الدول عندما تفي بالتزاماتها إزاء المجتمع الدولي، وتتعين عليها مواجهة عواقب عدم التزامها في ذات الوقت". وفضل أوباما اختتام خطابه بهذه الكلمات التراثية الموروثة من السياسات الأميركية السابقة: "إن مصيرنا لم يكتب من أجلنا مطلقاً، بل نحن الذين نكتبه... وها نحن نبدي استعداداً جديداً لقيادة العالم مرة أخرى". وقد قوبلت هذه العبارة الختامية بتصفيق حار من قبل الحضور. فلمَ التصفيق يا ترى؟ فسيتم نشر هؤلاء الجنود المتخرجين للتو في ميادين حروب لا علاقة لها على الأرجح بكل ما ورد في خطاب الرئيس الذي استمعوا إليه يومها. فليست هذه الحروب حملة عسكرية عارضة، وإنما لها علاقة مباشرة بالتدخل في دول وأمم بالكاد نعلم عنها شيئاً، ومع ذلك نسعى إلى فرض شكل من أشكال الحكم ومجموعة من القيم تختلف تمام الاختلاف عن القيم التقليدية التي تؤمن بها تلك المجتمعات. ومثلما حدث في العراق وأفغانستان، فها نحن نحاول أيضاً كف تلك الشعوب عن الممارسات الطائفية التي درجت عليها منذ القرون الوسطى وإلى اليوم، على رغم نظرة الأميركيين إلى هذه القيم والممارسات على أنها بدائية وزائفة ومعيقة للنمو، بل قد نراها مهددة لمعتقداتنا وأمننا القومي! فلماذا نفعل هذا بحق الشعوب والأمم المعنية؟ من الصعب إيجاد تفسير عملي لهذا السلوك سوى كونه رداً على هجمات 11 سبتمبر التي شنها الإرهابيون المتطرفون على بلادنا. وقد تواصلت هذه الهجمات والعمليات بأشكال مختلفة، بما فيها من حاول تفجير حذائه أو بنطاله على متن اثنتين من الطائرات الأميركية، وصولاً إلى محاولة تفجير ميدان تايمز سكوير الأخيرة عن طريق سيارة مفخخة مؤخراً. وعلى رغم إشادة أوباما في خطابه الأخير بجهود الحلفاء في "الناتو" وتعاونهم مع الولايات المتحدة ضد حركة "طالبان"، فإن مما لا يفوت البيت الأبيض حقيقة دنو أجل انسحاب القوتين الهولندية والكندية من أفغانستان. أما في بريطانيا -الحليف الأقوى لواشنطن في حربها على الإرهاب- فقد تزايدت الضغوط الشعبية الداعية للانسحاب على حكومة حزب "العمال" السابقة. وقد انتخبت بريطانيا للتو حكومة محافظة جديدة، لا يبدي أرستوقراطيوها ودّاً يذكر تجاه "اليانكي". هذا ومن المتوقع أن تضطر أيضاً القوة الألمانية الصغيرة المنتشرة في أفغانستان إلى الانسحاب هي الأخرى. وبذلك يتضاءل وجود "الناتو" وتبقى مسؤولية الأمن ملقاة على عاتق القوات الأميركية وحدها. ولعل التصور الواقعي الوحيد الذي سيصل إليه أوباما يوماً ما، هو التفاوض مع القوى الفاعلة الوطنية والإقليمية على أمل التوصل إلى صيغة ما تعيد للأفغان تولي زمام أمورهم بأنفسهم في أقرب وقت ممكن. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيسز"