في الأشهر القليلة الماضية، لاحظ عدد من الرسميّين الغربيّين، كما من المراقبين والمعلّقين، أنّ اللهجة الروسيّة قد تحسّنت كثيراً حيال الولايات المتّحدة والبلدان الغربيّة عموماً. ويبدو، حسب السياسيّين والدبلوماسيّين على الأقلّ، أنّ هذا التغيّر انعكس على اللقاءات والمداولات الرسميّة مع نظرائهم الروس، وعلى الأجواء التي تكتنفها. إلى ذلك حصلت على الأرض تطوّرات ملحوظة على هذا الصعيد. فقد وقّعت روسيا في الفترة الأخيرة معاهدة جديدة مع الولايات المتّحدة للحدّ من الأسلحة النوويّة. وكان شيء كهذا مستبعداً جدّاً في عهد بوش الابن، بل ربّما في عهد بوتين المسكون بالتوكيد الذي لا يتعب على قوّة روسيا، وعلى الردّ على "الإهانات الغربيّة" التي وُجّهت إلى بلده في ظلّ عهد سلفه يلتسين. وكذلك قبلت موسكو، على ما يبدو، فكرة تطبيق عقوبات أقسى حيال إيران، أو أن هذا ما تقطع به الروايات الرسميّة الأميركيّة، وذلك بعدما بدا، ولفترة طويلة نسبيّاً، أنّ روسيا والصين هما اللتان ستتصدّيان لنهج العقوبات الأميركيّ. إلى ذلك تزايدت الأخبار التي تقول إنّ موسكو قد لا تسلّم طهران الأسلحة التي اتُّفق عليها في وقت سابق، والتي لا تكفّ الأخيرة عن التنويه بضرورتها الاستراتيجيّة للأهداف "الدفاعيّة" التي يتطلّبها الأمن القوميّ لإيران. وثمّة من ذهب أبعد مشيراً إلى تجدّد الخلافات في ما خصّ مفاعل بوشهر وتشغيل محطّتها. وهو ما يغدو أكثر قابليّة للتصديق في ما لو صحّت أخبار التحوّل الروسيّ في الموقف من مسألة العقوبات. وكائناً ما كان الأمر، تجلّى التباين الروسيّ- الإيرانيّ في تلك المساجلة التي خيضت بين الطرفين، على أعلى المستويات. فقد اتّهم رسميّ روسيّ رفيع الطرف الآخر بـ"الديماغوجيّة السياسيّة"، بعدما وجّه تهماً إلى حكّام روسيا ترقى إلى إهانات فعليّة. وكانت الإشارة الأخرى المهمّة على التغيّر الروسيّ طريقة التعاطي مع الحادث الجويّ الذي أودى بالرئيس البولنديّ "ليخ كاشينسكي" ومرافقيه الذين يقاربون المئة شخص. فقد تمّ التعامل مع الحدث المذكور بشفافيّة وحساسيّة غير معهودتين من قبل في السياسة والإعلام الروسيّين. وما زاد في تظهير معنى الحدث ورمزيّته أنّ الرئيس البولنديّ كان متوجّهاً للاحتفال بالذكرى السبعين لمجزرة كاتين، حينما أقدم ستالين على التخلّص من مئات البولنديّين، وفي عدادهم نخبة الضبّاط الوطنيّين والمتحفّظين على الدور السوفييتيّ في بلادهم. ومعروفٌ أنّ الاتّحاد السوفييتيّ استمرّ طويلاً ينفي حصول هذه المذبحة ويتستّر على وجود المقبرة الجماعيّة التي ضمّت رفات ضحاياها. وإشكال مجزرة كاتين إنّما تعدّى العلاقات السياسيّة بين موسكو ووارسو إلى مسألة الكرامة الوطنيّة البولنديّة ذاتها، ومن ورائها حساسيّة البلدان الديمقراطيّة الغربيّة حيال السلوك الستالينيّ والسوفييتيّ. وكائناً ما كان الأمر، ردّ بعض المحلّلين الغربيّين هذا السلوك الروسيّ الجديد إلى عوامل عدّة ومتفاوتة الأهميّة: فهناك، أوّلاً، تغيير الولايات المتّحدة موقفها من مسألة الدفاع الصاروخيّ التي سبق أن أرعبت الروس وأثارت حفيظتهم. فقد تحقّق لديهم ما يشبه الإجماع الشعبيّ العريض على أنّهم هم المستهدَفون تحديداً بنشر الرؤوس النوويّة الأطلسيّة في أوروبا الوسطى. وكان هذا ما يضيف المخاوف إلى مشاعر المهانة الوطنيّة في عهد يلتسين، وإلى الإحساس العميق بأنّ الغرب، والولايات المتّحدة خصوصاً، لا يسعيان إلاّ إلى تعميق تلك المهانة والاستفادة منها إلى الحدّ الأقصى. وهناك، ثانيّاً، ما يُنسب إلى تنامي نفوذ رئيس الجمهوريّة ميدفيديف على حساب رئيس الحكومة بوتين. فالأوّل، كما بات شائعاً، يستند إلى أنّ روسيا تجاوزت ضعفها السابق، اقتصاديّاً وعسكريّاً، وأنّ عليها تاليّاً أن تتجاوز عقدة علاقتها بالغرب، بحيث تستفيد من أجواء الانفراج الدوليّ وتحقّق مزيداً من الانخراط في الاقتصاد المعولم ومن الاستفادة منه. ولهذا يلوح لكثيرين من المراقبين أنّ ميدفيديف يمثّل نهجاً مختلفاً عن نهج بوتين الماضي في العزف على أوتار الكرامة الوطنيّة والسعي إلى القوّة العسكريّة والنفوذ. وهذا التباين هو ما يحاول رئيس الجمهوريّة الحاليّ تحويله إلى عقيدة يستند إليها في استقلاله عن بوتين، لاسيّما أنّ طموحاته باتت تفيض عن إمكان الاستيعاب البوتينيّ. وهناك، ثالثاً، ضرورة تكييف السياسات الخارجيّة المعتمَدة مع الانخفاض البالغ الذي طرأ على أسعار الغاز والتحوّلات التي لحقت مؤخّراً بأسواق الطاقة العالميّة. فالروس، ولاسيّما ميدفيديف، مدركون أنّ الارتكاز الأحاديّ على الموادّ الأوليّة لا يخوّلهم الإقدام على مواقف تستفزّ الغرب من دون تملك أسباب تغذيتها وإدامتها. وتحت هذا السلوك يقيم ما يشبه القناعة بأنّ روسيا لم تعد قوّة كونيّة عظمى، وأنّ عليها الاكتفاء بتكريس وضعها كقوّة إقليميّة عظمى فحسب. وأخيراً، هناك تأثير المدرسة الأوروبيّة وتقاليدها المديدة في الفكر السياسيّ الروسيّ. فأصحاب الهوى الأوروبيّ، وعلى الضدّ من المدرسة الآسيويّة التي تشاركهم العراقة والنفوذ، يرون أنّ مصلحة بلادهم تكمن، في آخر المطاف، في الغرب، بينما المنافسة الجدّيّة تصدر عن الصين، كما أنّ "التهديدات" تتأتّى عن العالم الإسلاميّ. ذاك أنّ الخوف من الصين، على ما تقول إحدى الحجج الرائجة في هذا الوسط، حال دون التقارب معها إبّان خضوع البلدين للإيديولوجيّة الشيوعيّة إيّاها. فكيف الحال وقد سلك كلّ من البلدين طريقه التي لا يجمعها جامع بطريق البلد الآخر. أمّا المشكلة الشيشانيّة فلا تفعل غير إمداد هذه المدرسة بمزيد من الحجج المطلوبة. والتتمّة الطبيعيّة للمنطق هذا مفادها أنّ تخلّي أوباما عن خطّة نشر الصواريخ، معطوفاً على استقرار النزاع على يوغوسلافيا السابقة، السلافيّة والأرثوذكسيّة المذهب، يرسمان وجهة المستقبل مع الغرب بوصفه تكامليّاً لا صراعيّاً. وقصارى القول إنّ صحّة هذا التحليل، في ما لو أكّدتها الوقائع، ستضعنا أمام حقائق جديدة وكبيرة يمكن تلمّس آثارها المباشرة في غير مكان على كوكبنا، من إيران إلى كوريا. فلننتظر ونرَ.