معظم دول العالم ومنظماته الإنسانية والمدنية أدانت جريمة إسرائيل باعتراض أسطول المساعدات المتجه لغزة المحاصرة. وحصار غزة تعاونت عليه إسرائيل و"حماس". إسرائيل قامت على جرائم منذ نشأتها، ولم تخالف طبيعتها الإجرامية في اعتراضها للسفن في المياه الدولية. و"حماس" متمسكة بالسلطة بقوة وببطش وبالقتل لكل من يخالفها، والضحية هو الإنسان الفلسطيني. هذه زبدة الموضوع، "شاء من شاء وأبى من أبى" -مثلما كان يردد القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. ما قام به أسطول الحرية عمل بطولي وإنساني بكل المقاييس، فبغض النظر عن التفاصيل والأسباب والمسببات، لكن هدف وفكرة القافلة البحرية نبيل وعظيم. الحصار كلمة مشتقة من حصر، ومنها الحصير الذي يعني الحبس، قال تعالى: "وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً". والحصار هو المغص المعوي أو عدم القدرة على التبول، ويبدو أن من مشتقاتها الحديثة "حصر" بمعنى الحساب، كأن يقال إن "الطواقم الطبية وجدت صعوبة في حصر أعداد الضحايا". يتعرض أهل غزة للحصار وفوقه المرمرة، والمرمرة تعني باللهجة الخليجية الشحططة بلغة أهل الشام والبهدلة في مصر. واشتقت المرمرة خليجيّاً من المرارة والطعم المر، فتكرار المقطع الصوتي يعني تكرار الفعل، فهَدَم تختلف عن هدّم، وقَتَل توحي بارتكاب الفعل مرة واحدة، بينما تعني كلمة قتّل تكرار عملية القتل. والمرمرة تعني تذوق المر مراراً وتكراراً وليس مرة واحدة. وتعني المرمرة التعذيب البيروقراطي، فيقول الواحد: "مرمرة وعذاب هالمعاملة في الوزارة الفلانية". ولعل المرمرة البيروقراطية من المظاهر القليلة التي تجمع العرب وتوحدهم من المحيط إلى الخليج، فالإنسان العربي يتمرمر ويتشحطط ويتبهدل بين أروقة مؤسساتنا الحكومية، وتحاصره الرشاوى والفساد والتخلف الإداري. والمرَّارة أو الحويصلة الصفراوية هي العضو الذي يساعد على هضم الدهون في الجسم، واستئصاله في الغالب يتم دون مشاكل صحية لاحقة، ومع أنه يعتبر عضوًا يمكن الاستغناء عنه، إلا أنه عضو يرتبط بالقهر والظلم، فيقال في اللهجة "فلان طقّت مرارته" أي انفجرت غضباً وغيظاً وقهراً. ويقال "شي يطق المرارة" أي أنه مزعج وشديد المرارة. ولا أعرف لماذا ارتبطت المرارة بالقهر والذل، مع أن "الحلاوة" وأكل الحلو قد يتسبب بمرض العصر الخطير -السكر، إلا أننا لا نعرف مرضاً يسمى "المرارة"، بل العكس هو الصحيح: فالمر أو المُرّة -وهي كذلك بالإنجليزية myrrh - تعتبر علاجاً لكثير من الأمراض، وكانت أمي -رحمها الله- تسقينا صغاراً الماء المنقوع به مُرة كدواء ومضاد حيوي. والمرة شجرة شائكة الأغصان وتعطي رائحة جميلة حين يخرج منها المر، ومن المفارقة أن المرة تستخدم في صناعة العطور ومواد التجميل. السفينة التي قادت أسطول الحرية والتي تعرضت للمذبحة الإسرائيلية اسمها مرمرة، واسمها مشتق من بحر مرمرة المشتق من رخام المرمر الذي تشتهر به جزر مرمرة الواقعة في هذا البحر الذي يربط البحر المتوسط بالبحر الأسود. ولقد تمرمر أهل هذه السفينة التي دخلت التاريخ، وأحسب أن الأتراك سيحولونها يوماً إلى متحف شاهد على الجريمة. تعيش إسرائيل حصاراً دبلوماسيّاً دوليّاً هذه الأيام، فمذبحة "مرمرة" تعقب إخفاقاً إسرائيليّاً في إخفاء آثار جريمة اغتيال المبحوح في دبي، وتسجل انتكاسة لصورة إسرائيل "الوديعة المسالمة والديمقراطية". لقد انقلب السحر على الساحر، فأشد حلفاء إسرائيل -الولايات المتحدة الأميركية- تشعر بالحرج الشديد من حليفها المدلّل، والجريمة حدثت في المياه الدولية لدولة صديقة لإسرائيل ولأميركا، وعضو في حلف "الناتو"، وآثارها لن تتوقف في المستقبل القريب. لكنني أضع يدي على قلبي من حماقة نرتكبها فتنسي العالم الجريمة الإسرائيلية، وأخاف من عدم استغلال العرب للضعف الإسرائيلي على الساحة الدولية، فيستمر حال غزة المنكوبة بين الحصار والمرمرة!