في عالم تتصاعد فيه حدة الجرائم ضد الإنسانية وتُقترف أبشع المجازر، يتساءل الكتاب والمفكرون عن معنى السلوك البشري محاولين تفسير ما يقوم به الإنسان من أعمال تفوق أحيانا كل تصور وتتجاوز المعايير الأخلاقية والأعراف الإنسانية. ومن المفاهيم التي ناقشها الفلاسفة والمفكرون فكرة الشر باعتبارها المسمى الذي يلجأ إليه الإنسان إما لتبرير الأعمال والتصرفات الموغلة في الوحشية، أو لإدانة أصحابها والحؤول دون تمتعهم بظروف التخفيف والعفو. هذا المفهوم الواسع والفضفاض يضعه المفكر البريطاني، تيري إيجلتون، تحت مبضع التشريح في كتابه المعنون "في الشر"، لكن قبل مناقشة الشر وما يثيره من أسئلة، يبدأ الكاتب بالوقائع الملموسة التي تعد أمثلة دالة على الشر، راصداً التفاعل الإنساني معها. ففي حادث أليم شهدته بريطانيا قبل سنوات، أقدم طفلان على قتل رضيع والتمثيل بجثته. هذه الجريمة التي صدمت الرأي العام أثارت نقاشاً حاداً حول كيفية التعامل مع الطفلين، وهنا يورد الكاتب تعليق الشرطي الذي اعتقلهما حيث قال: "شاهدت الشر يبرق في عينيهما". وينطلق الكاتب من هذا المثال ليتساءل: ما الذي دفع الشرطي إلى المسارعة بإلصاق صفة الشر بالطفلين؟ ويعتقد المؤلف أن دافع ذلك الحكم لدى الشرطي هو الخوف من أن يلتمس الناس الأعذار للطفلين، فالطفولة في المخيال الجماعي مرتبطة بالبراءة، كما أن البعض وفي حضرة الجرائم البشعة يلجأ إلى الظروف الاجتماعية والتاريخية للمجرم في محاولة لفهم أسباب الجريمة ودوافعها، وهو ما أراد الشرطي تفاديه بتقرير الطبيعة الشريرة للطفلين. وفي هذا السياق يقول الكاتب: يتحول الشر إلى معطى غير قابل للتفسير، لا تقف وراءه أية دوافع سابقة، وبالتالي لا يمكن تبريره، ذلك أن الشر قائم بذاته ومتأصل في النفس. هذا التفسير يقود إلى افتراض آخر يرى أن البشر يقدمون على الشر لا لأشياء حدثت في ماضيهم، أو لتاريخ معين من القمع والمعاناة، بل فقط لأنهم أشرار. لكن المأزق الذي يقع فيه أتباع هذا الرأي الذين ينفون أي تدخل للمحيط في تكوين شخصية الشرير، والاعتقاد أن الشر كيان مستقل متأصل في نفوس الأشرار، هو تماماً ما حاول الشرطي تفاديه، فإذا كان الشر متأصلا أو لصيقاً بنفس الشخص الشرير فيما يشبه الجينات المتحكمة فيه، فهذا يعني أنه ليس حراً في اختيار سلوكه، وأن شره حتمي لا يمكن تغييره، ومن ثم وجوب التعامل معه على أنه إنسان غير مسؤول. وهنا يسلط المؤلف الضوء على العلاقة بين حتمية السلوك وحرية الاختيار التي تثيرها مناقشته للشر، إذ لا مفر من الاعتراف بعاملي الاختيار والحرية في اقتراف الجرم إذا ما أريد معاقبة المجرم وتحميله تبعات أعماله. لكن من جهة أخرى يتساءل الكاتب حول هذه المسؤولية المطلقة التي يتحكم من خلالها البشر في سلوكهم ويتحول بموجبها الشر إلى اختيار لا علاقة له بالظروف النفسية أو الاجتماعية المحيطة. ومن هنا يمكن تفهم تعليق الشرطي على اعتقال الطفلين، وهو تعليق، يقول الكاتب، أيديولوجي بامتياز، لأن ما كان يحركه بالأساس هو الرغبة في إنزال العقاب بالطفلين والخوف من تبرئتهما. هذا الرأي أيضا يتبناه المحافظون على سبيل المثال الذين يعتبرون الإنسان مسؤولا عن تصرفاته وأن الشر مهما كان بسيطاً لا يمكن أبداً تبريره بظروف اجتماعية أو سواها، فكم من شخص نشأ في ظروف صعبة لم يتحول إلى مجرم، وكم من مواطن صالح اليوم عانى الأمرين في طفولته ونشأ في بيئة تعج بالمجرمين، في تأكيد واضح على حرية الفرد في الاختيار وعلى إطلاقية الشر المتعالي عن أية ظروف، وبهذا المعنى يتحول الإنسان إلى كائن مستقل تماماً عن التأثيرات الاجتماعية وإلى ذات واعية وعقلانية قادرة على شق طريقها في أحلك الظروف وأشدها قساوة. والحال كما يقول الكاتب أنه لا فرق بين الخضوع للتأثيرات الموضوعية وبين الحرية الذاتية، ذلك أن التأثيرات التي ينفيها البعض لا تفعل فعلها إلا بعد التأويل، والتأويل كما هو معروف عملية إبداعية، فليست تجارب الماضي هي ما يحكم حاضر الشخص بقدر ما يؤثر فيه تأويل ذلك الماضي وكيفية التفاعل معه، وحتى عندما نفترض أننا فعلا مستقلون عن كل تأثير فإن معنى الاستقلال أصلا لا يتبلور إلا داخل المجتمع. لذا لا يمكن استبعاد السلوك الإنساني بما في ذلك الشر، من المحددات الاجتماعية. زهير الكساب ------- الكتاب: في الشر المؤلف: تيري إيجلتون الناشر: جامعة ييل تاريخ النشر: 2010