على هذه الصفحات اليومية في جريدة "الاتحاد"، واظب الدكتور محمد عابد الجابري طوال نحو 12 عاماً على نشر مقال أسبوعي، كتب آخر حلقة منه قبل يوم واحد من وفاته في الثالث من مايو المنصرم. وتميزت مقالات الجابري بالقوة والرصانة والعمق، وبمنهجية في التناول والتحليل غير مألوفة لما درج عليه الفكر العربي. وقد قام بتطوير بعض مقالاته إلى كتب أو مادة أولية لبعض كتبه الصادرة خلال الفترة المذكورة، والتي شكلت مع مؤلفاته المنشورة منذ بداية الثمانينيات، مشروعاً فكرياً هو موضوع كتاب "محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، لمؤلفه الدكتور حسين الإدريسي. ظهرت أولى حلقات مشروع الجابري، والذي سماه "نقد العقل العربي"، في عام 1984، من خلال كتابه "تكوين العقل العربي"، وإن كان قد مهد له بقضايا وتساؤلات مهمة أثارها في ثنايا كتابه "نحن والتراث" الصادر عام 1980. لكن "تكوين العقل العربي" اعتبر في حينه خطاباً جديداً أحدث هزة في الساحة الفكرية العربية، كما شكل ظاهرة فكرية حقيقية جلبت إليها جل مفكري الإنتلجنسيا العربية. يمهد الدكتور الإدريسي لكتابه بمدخل يسلط الضوء على محطات من الحياة الشخصية والفكرية للجابري، موضحاً ظروف بداياتها الأولى في "فجيج" بالمغرب، حيث درس الجابري في "الكتّاب" القرآن والفقه والنحو، ثم التحق بمهنة التعليم ليتدرج من معلم بالأقسام التحضيرية إلى معلم ابتدائي، ثم مدرس بالمرحلة الثانوية، فأستاذ جامعي. كما ساهم في الصحافة ابتداءً من جريدة "العلم"، ثم جريدتي "التحرير" و"فلسطين". وكان في الوقت نفسه ناشطاً سياسياً في الحركة الوطنية، وقد انتخب في عام 1962 عضواً بالمجلس الوطني لحزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، وتعرض للاعتقال عام 1963، وتولى في السنوات اللاحقة صياغة التقرير الأيديولوجي لـ"حزب الاتحاد الاشتراكي" الذي حل محل "القوات الشعبية". وهكذا فقد تداخلت في شخصية الجابري عدة حقول، عملية ونظرية، سياسية وفكرية وتربوية وإعلامية، جعلته يستخلص أن "الممارسة السياسية لابد أن تتأسس على قاعدة فكرية وفلسفية عميقة". لذلك لم يشغله النشاط الحزبي عن العمل البحثي، فتوج مساره المعرفي بشهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970، كأول دكتوراه من نوعها بالمغرب، وكان عنوانها "العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي". ويحاول المؤلف استقصاء جذور الشخصية السياسية والفكرية للجابري؛ موضحاً أن الصحافة علمته سهولة الأسلوب ووضوح الكتابة، وأن شخصيتي "الحاج محمد فرج" و"المهدي بن بركة" ألهمتاه الوطنية والاشتراكية، بينما عمقت تجربته القصيرة في دمشق ميوله العروبية، علاوة على تأثير المؤسسة التعليمية في مساره الفكري عامة. وإلى ذلك فقد تأسس مشروع الجابري على دعامتين: أولاهما التراث العربي الإسلامي كموضوع للتفكير ومصدر للأصالة، وثانيتهما مناهج الحداثة الغربية وعلى رأسها المقاربة الابستمولوجية. ويثير الدكتور الإدريسي سؤال المنهج في مشروع نقد العقل العربي، من خلال تقديم مفصل للكتب التي كونت عماد المشروع، وهي أربعة: "تكوين العقل العربي"، و"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي". والجواب على ذلك السؤال يتفرع إلى إجابتين: تتصدى أولاهما للكشف عن منهج الكتابة عند الجابري، بينما تعمل الثانية على التحليل الداخلي للمنهج والذي حل وفقه الجابري قضاياه الفكرية ومارس طرائقه النقدية. ففيما يتعلق بمنهج الكتابة، يوضح الجابري في مقدمة "التكوين"، مثلا، عتبات الموضوع الذي ينوي معالجته، والتي تأتي في الغالب كإجابات مقتضبة على أسئلة يثيرها، مشكّلة بذلك تعريفاً للقاعدة النظرية للكتاب. ثم يذكر طموحاته من وراء المشروع مبيناً مقاصده وملخصاً إياها في عنصرين: أولهما استئناف النظر في تاريخ الثقافية العربية الإسلامية، وثانيهما بدء النظر في "كيان العقل العربي وآلياته". ورغم إعجاب المؤلف بقدرة الجابري على توظيف النصوص التراثية وإيجاد الروابط غير المرئية فيما بينها، والوصول من مقدماته، مروراً بتحليل النصوص ذاتها، إلى نتائج يعالجها بنَفس طويل، مقلباً أوجهها بصبر لا يفل... فإنه مع ذلك يأخذ عليه جمعه في أحايين كثيرة، وفي الموقع نفسه وداخل نسق الفكرة ذاتها، وببراعة منهجية تعطي لتحليله خلاصة علمية ومستوى راقيا... وبين معالجة عصبية لا تستند إلى منطق علمي أو منهجي. كما يستخلص الإدريسي من قراءة الجابري للنصوص التراثية العربية الإسلامية، والتي يسميها "العقل العربي"، أنها تستدعي المناهج الغربية الحداثية لتفكيك العقل العربي على نحو انتقائي لا يؤمن بمضامين تلك المناهج، وقد لا يحترم أصحابها أيضاً. لكن الجابري الذي لم يعبأ خلال حياته بالرد على المنتقدين، كان يعتقد -على ما يبدو- أن أحد أهدافه قد تحقق فعلا، ألا وهو تحريك الحياة الفكرية العربية من خلال مشروع غير مسبوق في جدته وشموله وتماسكه وصرامته المنهجية وثرائه المعرفي. محمد ولد المنى ------- الكتاب: محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي المؤلف: د. حسين الإدريسي الناش: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي تاريخ النشر: 2010