في هذا الكتاب الذي نعرضه هنا، "نهاية السوق الحرة"، يعمد مؤلفه إيان بريمر إلى دراسة تنامي رأسمالية الدولة في المجتمع الحديث. وإلى جانب العنوان الرئيسي للكتاب، هناك عنوان فرعي صيغ في شكل سؤال أساسي: "لمن يكون الفوز بالحرب الدائرة بين الدولة والشركات؟". والمقولة الأهم التي يدافع عنها المؤلف في كتابه هي أن رأسمالية الدولة تختلف اختلافاً جوهرياً عن رأسمالية السوق الحرة من ناحية أن الدوافع السياسية، وليست دوافع الربح، هي التي تحدد عملية اتخاذ القرارات الخاصة بتنظيم وتشغيل رأسمالية الدولة. ولهذا السبب تحديداً يهدد هذا الشكل من أشكال الرأسمالية الحديثة بتقليص السوق الحرة وانكماش الاقتصاد العالمي. ومن رأيه أن هذا النمط يمثل الفصل الأخير من فصول صعود النظام الرأسمالي وتوسعه خارج نطاق الدول الغربية، وعلى صعيد النظام الاقتصادي العالمي. وربما تتخذ الرأسمالية أشكالاً متعددة، يمكن التمييز بينها بالكيفية التي تستخدم بها الثروة من أجل خلق مزيد من الثروات. وفي نمط رأسمالية السوق الحرة، يكون دور الدولة غالباً تعزيز خلق المزيد من الثروات وتنظيم العقود وغيرها من أدوات العمل الإنتاجي ومعاييره المعنية بضمان أخلاقية ممارسة النشاط الاقتصادي المالي؛ منها منع الجشع وغيره من السلوكيات السيئة التي عصفت بأسواق وول ستريت مؤخراً ودفعت بالاقتصاد العالمي برمته إلى هوة سحيقة من الكساد. ويلاحظ المؤلف أن هذه السلوكيات كثيراً ما عصفت بالاقتصاد العالمي وألقت بتأثيراتها السالبة عليه على نحو دوري متكرر منذ أيام جنون زهرة الخزامى الهولندية في عام 1637. وإيجازاً، تحاول حكومات دول اقتصاد السوق الحرة ما وسعها توفير الضمانات اللازمة لنزاهة الممارسة الاقتصادية. وخلافاً لنمط رأسمالية السوق الحرة، تسيطر على رأسمالية الدولة الأجندة السياسية الخاصة بالسلطة. وفيما لو خير هذا النمط بين الانحياز لصالح حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، والإنتاج الاقتصادي، ومبادئ حرية خيارات المستهلك من جهة، وبين تحقيق الأجندة السياسية للدولة من جهة أخرى، فإنه حتماً ينحاز للخيار الأخير. ويقصد إيان بريمر باستخدامه لمصطلح رأسمالية الدولة، الإشارة إلى نظام اقتصاد تدفع فيه حكومات الدول الاقتصادات المحلية من خلال ملكية الحكومات لكبريات الشركات والمؤسسات الاقتصادية المنتجة، إضافة إلى وضع يد الحكومة على الفائض الرأسمالي للدولة المعينة، مع استخدام كل ذلك لتحقيق الأجندة السياسية وليست الاقتصادية. ومن رأيه أن هذا النمط الرأسمالي بات مهدداً للقدرة التنافسية الأميركية، وللاقتصاد العالمي إجمالاً. وبصفته خبيراً متخصصاً في الشؤون السياسية والاقتصادية، ورئيس مجموعة "إيروسيا" الاستشارية العالمية، فقد اهتم الكاتب بصعود نمط رأسمالية الدولة في كل من الصين وروسيا وبعض الدول الخليجية وإيران، إضافة إلى دولة أخرى في أميركا اللاتينية هي فنزويلا. ومن بين الأسئلة الرئيسية التي تصدى لها المؤلف في كتابه: هل أصبح عالمنا على شفا حرب باردة جديدة، ليست لها علاقة بسباق التسلح النووي هذه المرة، وإنما هي حرب للسباق على القدرة التنافسية الاقتصادية بين الدول؟ وهل في وسع دول رأسمالية السوق الحرة التنافس مع دول رأسمالية الدولة، فيما يتصل بالعلاقات مع البلدان الأخرى التي يتألف اقتصادها من خليط بين النمطين مثل الهند والبرازيل والمكسيك؟ ومن الأسئلة الرئيسية أيضاً: هل تمثل رأسمالية الدولة نمطاً عابراً أم مستداماً في النظام الاقتصادي العالمي الحديث؟ وفي سبيل دراسة هذا النمط والتعمق في تحليله، ووجه المؤلف بمهمة استعراض واسع لتاريخ الاقتصاد العالمي وتطور أنماط وأشكال الرأسمالية، منذ عصر الميركنتلية الذي نشأ في أوروبا عقب تفسخ النظام الإقطاعي، مروراً بحقبة الحرب الباردة، وصولاً إلى صعود نمط رأسمالية الدولة الذي يرى فيه المؤلف تهديداً جدياً لرأسمالية السوق الحرة. كما احتاج المؤلف إلى تناول حالات دراسة بعينها لها صلة بهذا النمط الجديد، في دول عديدة منها روسيا والصين والبرازيل والمكسيك وإيران وبعض الدول العربية، مع ملاحظة تفاوت مدى ومستوى هيمنة جهاز الدولة على تسيير العملية الاقتصادية، وتوجيهها نحو تحقيق الأجندة والأهداف السياسية للحكومات. ففي حين يتسم النظام الاقتصادي المكسيكي بقدر معقول من الانفتاح والديمقراطية، هناك نظم سياسية مستبدة قابضة تمارس الاستبداد نفسه على النشاط الاقتصادي، وتحسم التنافس الاقتصادي لصالح الطبقات الاجتماعية الحاكمة ونظامها السياسي. أما الصين فتعتبر -في رأي الكاتب- النموذج الكلاسيكي الحديث لنمط رأسمالية الدولة. وفيها ينفرد الحزب السياسي الحاكم وحده برسم السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية وفقاً لتصوراته السياسية الأيديولوجية الخاصة به. وعلى أية حال فإن الكتاب لا ينتهي إلى رسم صورة تشاؤمية لمصير نمط رأسمالية السوق الحرة، وإنما يضع من التصورات والحلول التي تمكن هذا النمط من رفع قدرته التنافسية بالمزيد من تنظيم نشاطه المالي الاقتصادي. عبدالجبار عبدالله ----- الكتاب: نهاية السوق الحرة المؤلف: إيان بريمر الناشر: مجموعة بنجوين الأميركية تاريخ النشر: 2010