بأوصاف دقيقة، نستخدم نعوتاً لها دلالات حرفية لحقيقة ما جرى بعيداً عما قد يبدو انفعالات. فكل صاحب ضمير حي، على امتداد العالم، يشعر بالألم بعد أن تابع بحزن مشاهد القرصنة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بغطرسة لا حدود لها واستخدام القوة ضد "أسطول الحرية" الذي حمل مساعدات إنسانية لتذكير العالم بالحصار على قطاع غزة. والتراجع في دعم وتأييد الكيان الصهيوني دولياً مرشح للتزايد مستقبلا بعد مجزرة "أسطول الحرية" التي جاءت في سياق القمع الإسرائيلي لكل حالات التضامن مع فلسطين والتي تؤشر بوضوح إلى أن إسرائيل ماضية في سياستها القائمة على القتل والتدمير.‏ كما أن التصعيد الإسرائيلي هذا يشكل إهانة للمجتمع الدولي ويضع المنطقة أمام تهديدات خطيرة تنذر بتقويض أسس الأمن والاستقرار فيها. الآن، وبعد أن أنهى العالم إداناته الرسمية وأفاق من هول الصدمة، حان الوقت للتحرك عبر دعم مطلب أمين عام الأمم المتحدة ووزيرة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وغيرهما من الذين دعوا إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية ضد القرصنة الإسرائيلية التي استهدفت مدنيين عزلاً، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة التفعيل المطلوب لمضامين "تقرير جولدستون" الذي مثل نقطة تحول غير مسبوقة في طريق التعامل مع جرائم الحرب الإسرائيلية. وعليه، فإن على المجتمع الدولي الاضطلاع بمسؤولياته الأخلاقية والإنسانية في التدخل العاجل لإلزام إسرائيل بالانصياع للإرادة الدولية وقراراتها. فهذه الجريمة تثبت أن إسرائيل في وضع قلق للغاية من تصاعد الحملات الدولية، ذلك أن ما جرى هو بمثابة إعلان حرب إسرائيلية على 40 دولة، بل على الأسرة الدولية، الأمر الذي أدى إلى توسيع دائرة الانتقاد العالمية ضد سياسات الكيان الصهيوني وبصفة خاصة ضد توجهاته ومغالاته الداعمة للتطرف والانحياز العنصري على حساب القانون الدولي والسلام العالمي وحقوق الإنسان بشكل عام وحقوق الإنسان الفلسطيني بشكل خاص.‏ لذا، فإن الفرصة سانحة الآن للوصول إلى وضع تخسر فيه إسرائيل خسارة إضافية، خاصة وأنها حالياً لا تواجه أخطاراً جدية سوى الحملة الدولية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني. فجريمة القرصنة الدموية رسالة للمجتمع الدولي بأسره تؤكد إسرائيل من خلالها تحديها السافر للجميع وتنكرها لأبسط المبادىء الإنسانية والقيم الحضارية. وهو أمر ينبغي عدم السكوت عنه كما سبق أن تم في حالات أخرى كثيرة. فإسرائيل التي باتت الآن تتخوف من حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني على نحو متسارع، فقدت عقلها وتصرفت بوحشية وهمجية. ومع تزايد العزلة الدولية التي تعانيها والتحركات الدولية الشعبية التي تطالب بمعاقبتها وفرض الحصار والمقاطعة عليها، ستزيد الكراهية الدولية للدولة الصهيونية، وستزيد من عزلتها كدولة احتلال عنصرية دموية تقودها مجموعة من الإرهابيين والقراصنة الرسميين (وغير الرسميين من مستوطنين) يمارسون عربدتهم وإرهابهم أمام العالم، الأمر الذي قد يدفعها لعمل إجرامي كبير يائس. ونتساءل هنا: "ما هو المطلوب لمواجهة هذه الغطرسة الإسرائيلية؟! فمن جهة أولى، العالم العربي والإسلامي اليوم أمام معادلة جديدة واتخاذه موقفاً موحداً ضد الكيان الصهيوني فرصة أكبر تساعد في تصاعد النقد والرفض لسياسات هذا الكيان داخل المجتمعات الأوروبية والعالمية بشكل عام.‏ ومن جهة ثانية، يجب التأكيد على ضرورة التشاور والتنسيق مع تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، حيث تنبع أهمية الحوار العربي مع هؤلاء انطلاقاً من أهمية دور هذه الدول لمساندة القضايا العربية وبخاصة تركيا وموقفها المشرف تجاه القضايا العربية. ومن جهة ثالثة، يجب التأكيد على ضرورة تكثيف العمل الإعلامي ضد الحملات الصهيونية في العالم التي تسعى لإعادة تجميل صورة إسرائيل. ومن جهة رابعة، يتوجب التركيز على طلب حماية دولية للشعب الفلسطيني، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وإنهاء احتلال الضفة الغربية. أما فلسطينياً، فالمطلوب، تماماً كما قلنا حين وافقت "تنفيذية" منظمة التحرير على المفاوضات "غير المباشرة"، هو أن على "السلطة" و"المنظمة" تحمل مسؤولياتهما في نطاق: ضرورة المراجعة السياسية لمسيرة المفاوضات لاستخلاص العبر، يليه جهد ينتظمه "ميثاق وائتلاف فصائلي" يضم المنضوين في أطر "المنظمة" والفاعلين من خارجها (خاصة حركتي "حماس" و"الجهاد") بحيث تتحرك كلها وفق "برنامج مقاومة شعبية" يعمل من أجل إنجاز رحيل الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، سواء استمرت المفاوضات أم توقفت (مع إيماننا بعدم جدواها) مع استمرار الجهود لضمان حشر إسرائيل في الزاوية عبر التواصل مع العالم وحتى مع الإسرائيليين المؤيدين للتسوية، واستمرار وتصعيد المقاومة الشعبية بمشاركة جميع الفصائل والقوى. كما يتعين تفعيل دور فصائل ومؤسسات "المنظمة"، وبصفة خاصة "فتح". كما أنه على الفصيلين الرئيسيين، "فتح" و"حماس"، بذل جهود أكبر هذه المرة، فقد منحتهما إسرائيل فرصة لا تعوض لإنهاء الانقسام ودفن خلافاتهما أو على الأقل إبداع صيغة للتعايش، فمن المعيب أن يستشهد الأجانب من أجل رفع الحصار عن غزة، فيما لا تزال أكبر حركتين تمثلان الفلسطينيين، منقسمتين فيما بينهما. ختاماً، الكيان الصهيوني استهزأ بدول العالم ونفذ جريمته في عرض البحر، في منطقة دولية، أمام بصر العالم دون بصيرته. لذلك فإن السؤال المركزي يتلخص فيما ستفعله واشنطن. مع العلم بأن إدارة أوباما هددت، بعد أن بوشر بالمفاوضات "غير المباشرة"، بأنها ستتحرك وتتصرف بحزم حال قيام أي من الطرفين، الفلسطيني أو الإسرائيلي، بعمل استفزازي. وهنا نسأل -مع كثيرين- هذه الإدارة الواعدة أكثر من سابقاتها: أو ليس ما جرى يجسد استفزازاً لا مثيل له؟ العالم اليوم أجمع يقف على مفترق طرق. فالأمر لم يعد يقتصر على الفلسطينيين في الضفة والقطاع وما يعانونه من جرائم ترتكب بحقهم فحسب، بل امتد الأمر لكل من يتعاطف معهم ومع القيم الإنسانية الحضارية، فهل تساعد إدارة أوباما بتطبيق منظومة قيمها الإنسانية؟ وقبل ذلك، هل يساعد العالم (ومن ضمنه المجتمع العربي والإسلامي) إدارة أوباما في تلك المهمة؟