خلال الحرب الباردة، أصبحت تركيا عضواً في "الناتو"، واحتلت موقعاً أساسياً في الخطوط الأمامية المنوط بها الدفاع عن أوروبا ضد الخطر الذي كانت تمثله دول جنوب شرق أوروبا الأعضاء في حلف "وارسو" السابق... وحافظت على علاقات ممتازة مع الولايات المتحدة وصلت إلى حد قيامها بإرسال قوات لدعم العمليات التي قادتها الولايات المتحدة خلال الحرب الكورية التي دارت رحاها في خمسينيات القرن الماضي. ورغم أن تركيا قد تعرضت لعدد من الفورانات السياسية الداخلية، وأن علاقاتها مع اليونان المجاورة قد تدهورت تدهوراً خطيراً بسبب الأزمة في قبرص، فإنها ظلت مع ذلك دولة موالية للغرب تتطلع باهتمام شديد نحو أوروبا سعياً للتعاون الاقتصادي مع دولها قبل أن تتقدم في نهاية المطاف بطلب للانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. وخلال هذه الفترة أيضاً أقامت تركيا علاقات وثيقة للغاية مع إسرائيل، خصوصاً في مجال التعاون العسكري. وهناك شيئان حدثا في نهاية الحرب الباردة كان لهما تأثيرات بعيدة المدى: الأول أن تركيا أصبحت أكثر ثقة بنفسها، وأكثر اهتماماً بفنائها الخلفي، وبمد نطاق علاقاتها ونفوذها إلى سوريا والعراق وإيران وأفغانستان. وفي نفس الوقت الذي حدث فيه ذلك التحول، شهدت علاقة تركيا بالغرب توتراً ملحوظا على ضوء استمرار الاتحاد الأوروبي في موقفه الرافض لعضويتها في ناديه، كما ساءت علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى درجة كبيرة بسبب تداعيات غزو الأخيرة للعراق، والذي أحجمت تركيا عن تأييده. مقابل ذلك، كان التطور الآخر المهم خلال الفترة المذكورة، هو التوسع الكبير في صادرات الطاقة من آسيا الوسطى وبحر قزوين، وهو ما كان يحتاج إلى قدرة على الوصول للأسواق العالمية من خلال الدول المطلة على البحر الأسود، وأهمها تركيا التي كان موقعها وإمكانياتها يؤهلانها للعب دور حيوي في هذا المجال. وكان من الطبيعي على ضوء ذلك أن يتحول موقع تركيا كمعبر للطاقة المتجهة للدول المحتاجة إليها إلى واحد من الأوراق التركية المهمة في الساحة الدولية. وعلاوة على ذلك، خطت تركيا خطوات واسعة في مجال تحسين علاقاتها مع روسيا، حيث تطور التعاون التجاري بينهما إلى حد كبير، وامتد ليغطي العديد من المجالات أبرزها على وجه الخصوص خطوط أنابيب الطاقة، والمشروعات الإنشائية الكبرى في مختلف أرجاء روسيا، والتي تضطلع فيها تركيا بدور رئيسي. وفي الشرق الأوسط، توترت علاقة تركيا بإسرائيل على نحو دراماتيكي، خصوصاً بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2008 والغارة الأخيرة على أسطول صغير من السفن يقوده الأتراك كان يحمل مساعدات لقطاع غزة المحاصر في 31 مايو. وقبل ذلك، كانت تركيا قد حاولت التوسط من أجل التوصل لاتفاق بين سوريا وإسرائيل من أجل إنهاء حالة الصراع القائم بينهما، غير أن مساعيها في هذا الشأن لم تحقق شيئاً ذي بال. وفي نفس الوقت، حافظت تركيا على علاقات جيدة مع دمشق، وعملت على تحقيق تحسين جذري في علاقاتها مع العراق، بما في ذلك علاقتها مع القيادات الكردية في شماله. ويعود هذا جزئياً إلى حقيقة أن تركيا قد أصبحت في الوقت الراهن أقل اهتماماً بموضوع استقلال الأكراد، وأن رجال الأعمال الأتراك يحققون أرباحاً طائلة من خلال مشاركتهم في أعمال إعادة الإعمار في العراق والمنطقة الكردية بشكل خاص. وهذا التحسين في العلاقة بين البلدين لقي ترحيباً ملحوظاً من قبل معظم العراقيين. وعلاوة على ذلك، لعبت تركيا دوراً مهماً في أفغانستان، ومن منظور أميركا، فإن هذا الدور قد عوض إحجام أنقرة عن التعاون معها في غزو العراق. يضاف لذلك قيام تركيا بإرسال جنود إلى أفغانستان، وباعتبارها دولة إسلامية كبيرة كان لانخراطها في الجهود الرامية لإرساء الاستقرار في ذلك البلد مغزى وأهمية كبيران. كما شهدت العلاقات التركية مع إيران تحسناً ملحوظاً، بيد أن ذلك التحسن سبب قلقا في الولايات المتحدة، ولأوروبا أيضاً لاسيما بعد المحاولة الأخيرة التي قامت بها كل من تركيا والبرازيل للتوسط من أجل التوصل لاتفاقية ترمي لحل الأزمة النووية بين الغرب وإيران من خلال اقتراح خطة لتصدير نصف مخزون اليورانيوم الإيراني المخصب إلى دولة كبرى، لإعادة تخصيبه بدرجة أعلى. كثيرون نظروا إلى الجهد التركي في هذا الموضوع على أنها محاولة لتقويض الحزمة الجديدة من عقوبات مجلس الأمن ضد إيران، والتي كانت روسيا والصين قد وافقتا، وإن على مضض، على الانضمام إليها. البعض يقولون إن عودة تركيا كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط يحمل في طياته ملامح "عثمانية جديدة" واضحة، لكنني أرى أنه من غير الحكمة ومن السابق لأوانه أيضاً استخدام هذه العبارة في الوقت الراهن لأن الاهتمام الأكثر مباشرة من وجهة نظري بالنسبة لحكومة أردوغان وحزب "العدالة والتنمية"، حالياً، هو القيام على نحو منهجي ووئيد بتفكيك دعائم "الكمالية" التي قامت عليها الدولة التركية، والتي اتبعت نهجاً علمانياً مباشراً وصارماً بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في الربع الأول من القرن الماضي. وكلما تحسن الاقتصاد، زاد الرضا والدعم الشعبي لحزب "العدالة والتنمية"، أما إذا ما تدهورت الأحوال الاقتصادية جراء أزمة جديدة مثلا، فإن المسرح السياسي التركي قد يتغير. ومع ذلك، تبقى هناك حقائق مؤكدة هي أن تركيا قد أعادت تأسيس نفسها كلاعب إقليمي مهم وقوي. ومن خلال الاعتماد على الموقف الصائب، والحصول على أقصى دعم ممكن من الغرب، يمكن لتركيا والعراق أن يتحولا إلى حصن منيع ضد محاولات دول مثل إيران لها تطلعات لبسط الهيمنة على منطقة الخليج وأماكن أخرى. وتحول تركيا إلى لاعب أساسي في الجهود الرامية لاحتواء إيران، أو تحولها بدلا من ذلك إلى أداة تمكين لادعاءات إيران النووية والسياسية، يعد واحداً من أهم الموضوعات التي تتم مناقشتها في الدوائر الاستراتيجية حالياً. ولا شك أن أزمة تركيا الأخيرة مع إسرائيل، قد رفعت الرهانات في هذا الخصوص إلى مستوى أعلى.