نجحت مجموعة من العلماء الأميركيين في تطوير تطعيم خاص قادر على منع سرطان الثدي بين الفئران، وهو ما يعتبر اختراقاً علميّاً قادراً على أن يطلق عهداً جديداً في مجال مكافحة هذا المرض الخبيث، وفي خفض الوفيات الناتجة عنه بقدر كبير. فحسب نتائج دراستهم التي نشرت الأسبوع الماضي في إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Nature Medicine)، قام باحثون من مستشفى "كليفلاند كلينيك" الشهير بولاية مينوسوتا في الولايات المتحدة، بتخليق تطعيم يعتمد على بروتين مميز لسرطان الثدي، يمكن الجسم من مهاجمة الخلايا السرطانية وحدها، والقضاء عليها إذا ما أصابها المرض. ومن خلال تجربة التطعيم الجديد على مجموعتين من الفئران، مصابتين باختلال وراثي يضمن إصابتهما بالسرطان، لم يصب أيٌّ من أفراد المجموعة التي تم تطعيمها بالمرض، بينما أصيب جميع أفراد المجموعة الأخرى التي لم يتم تطعيمها، دون استثناء. ويعتزم العلماء نقل هذا النجاح من حيوانات التجارب إلى البشر، من خلال إجراء دراسة واسعة النطاق، تظهر ما إذا كان التطعيم سيحقق النتيجة نفسها على البشر، ومدى أمنه وسلامته للاستخدام الآدمي، وهو ما قد يستغرق عدة سنوات حتى تكتمل الصورة العامة، وتتأكد النتائج والتأثيرات النهائية. ويفتح هذا الاختراق المهم جبهة جديدة في صراع الطب الحديث مع سرطان الثدي، أحد أكثر الأمراض الخبيثة انتشاراً وحصداً لأرواح ضحاياه. فعلى مستوى العالم، يعتبر سرطان الثدي مسؤولا عن أكثر من عشرة في المئة من جميع أنواع السرطان التي تصيب النساء، مما يجعله في المرتبة الثانية على قائمة أكثر الأمراض السرطانية -غير الجلدية- انتشاراً بين النساء، بعد سرطان الرئة، الذي يحتل المرتبة الأولى. وهذا المعدل العالي من الإصابات يترجم في النهاية إلى أكثر من نصف مليون وفاة سنويّاً بين النساء بسبب سرطان الثدي، أو سبعة في المئة من جميع الوفيات الناتجة عن الأمراض السرطانية، وهو ما يجعل سرطان الثدي أيضاً في المرتبة الخامسة على قائمة الأمراض السرطانية الأكثر فتكاً بضحاياها. ومن الملاحظ خلال الأعوام القليلة الماضية وقوع تغير جوهري في نمط انتشار سرطان الثدي، حيث كانت الكتب والمراجع الطبية تنص سابقاً على أن سرطان الثدي مرض يصيب غالباً النساء المنحدرات من أصول أوروبية، والقاطنات في المدن الكبرى في قارتي أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. وهذه الكتب والمراجع بدأت مؤخراً في تغيير هذه المعلومة، التي ظلت تدرس لعقود طويلة لطلبة الطب وللأطباء، بعد تواتر الإحصائيات والدراسات التي تظهر الانتشار المتزايد في السنوات الأخيرة لسرطان الثدي في كل من آسيا، وأفريقيا، وشرق أوروبا، وأميركا الجنوبية، إلى درجة أن بعض التقديرات تشير إلى أنه بحلول عام 2020، سيقع 70 في المئة من حالات سرطان الثدي في الدول النامية، بينما ستكون 30 في المئة فقط في الدول الغربية. وعلى رغم هذا المعدل الواسع للانتشار، والنسبة المرتفعة من الوفيات بين المصابات، لا زال خط الدفاع الأساسي ضد سرطان الثدي يعتمد فقط على الكشف المبكر، من خلال الفحص الذاتي، أو الفحص العيادي، أو أشعة الثدي (الماموجرافي)، أو الفحص بالرنين المغناطيسي، أو بالموجات الصوتية، وأحياناً الفحص الوراثي. ولكن يعيب كل هذه الطرق، أن هدفها الأساسي هو الكشف المبكر عن الإصابة بالمرض، على أساس أن العلاج المبكر يزيد من فرص الشفاء والنجاة منه. أي أن مثل هذه الاستراتيجية، هدفها خفض الوفيات بين المصابين -وهو ما تحققه بالفعل وبنسبة 15 في المئة- وليس خفض معدلات الإصابة من الأساس، حسب المفهوم الشائع للوقاية في المجال الطبي. وهذا الهدف، أو الوقاية من الإصابة، يؤمل أن يتحقق من خلال تطعيم يعطى للنساء اللواتي وصلن سن الأربعين مثلا، ويقيهن من الإصابة بالمرض بقية حياتهن، كما هو الحال مع التطعيمات التي تمنح للأطفال وتقيهم ضد الأمراض المعدية بقية حياتهم. وهذا الأسلوب متبع بالفعل، وأثبت نجاحه مع أمراض سرطانية أخرى، مثل سرطان عنق الرحم، وسرطان الكبد. ولكن يبقى الفرق الجوهري هو أن تلك السرطانات، تنتج عن دخول فيروس غريب على الجسم، هو فيروس الثآليل الجنسية في حالة سرطان عنق الرحم، وفيروس التهاب الكبد الوبائي (ب) في حالة سرطان الكبد، وهو ما يجعل التطعيم ضد هذه السرطانات -بشكل غير مباشر- من خلال التطعيم ضد هذه الفيروسات، أمراً سهلاً نسبيّاً. ويختلف الوضع مع سرطان الثدي، حيث لا ينتج المرض عن الإصابة بفيروس أو غيره من الجراثيم، وإنما بسبب وقوع اختلال جيني داخل خلايا الجسم نفسها، وهو ما يصعب بشكل كبير من تحفيز جهاز المناعة ضد الخلايا المريضة، كونها جزءاً من خلايا الجسم أساساً. وما اتبعه علماء مستشفى "كليفلاند كلينيك"، هو تحديد بروتين خاص ومميز، لا يتواجد في خلايا الثدي إلا إذا كانت مصابة بالسرطان. وبتحفيز الجسم ضد هذا البروتين من خلال التطعيم يسارع جهاز المناعة بالقضاء على الخلايا السرطانية المحتوية عليه فقط. وهذه الفكرة البسيطة، والعبقرية في الوقت ذاته، تعبر عن اتجاه حديث نسبيّاً في التعامل مع الأمراض السرطانية، يبتعد تدريجيّاً عن العلاج الروتيني المعتمد على العقاقير الكيميائية السامة، والأشعة القاتلة للخلايا، باتجاه تحليل المكونات الكيميائية والوراثية لكل نوع من أنواع الأمراض السرطانية، وتخليق وابتكار طرق خاصة ومحددة، تقضي على الخلايا المريضة، ودون أن تسبب ضرراً فادحاً للخلايا السليمة ولبقية أعضاء وأجهزة الجسم، كما هو الوضع حاليّاً.