يخبرنا التاريخ بأن الديناصورات قد انقرضت بفعل تغيّرات مناخية وجيولوجية قضت على فصائلها. ولم نسمع أن سفينة نوح التي حفظت المخلوقات، من كل زوجين اثنين، كانت ضمن ركابها الديناصورات. وهذه بدهية أن الديناصورات قد انقرضت قبل الطوفان. وإذا كانت عند أحد شواهد مخالفة سنكون له من الشاكرين! وشعوب الخليج على رغم مظاهر الرفاه، وملامح الصرف السخي والتوسع في المباهج الاستهلاكية، إلا أنها قد تعاني مستقبلاً غير محدد الملامح! من ناحية تدني معدل الولادات وزيادة أعداد الوفيات، وازدياد أمراض الضغط والسكري والذبحات الصدرية بين أبناء الخليج. وقد التقيت مؤخراً بثلاث من الأكاديميات الخليجيات، كان اليأس باديّاً على وجوههن، من آثار التركيبة السكانية، وسياسات التوظيف، وسلوكيات الإدارات العامة في العديد من المؤسسات الخليجية. وكوننا من الأكاديميين، فقد تركز الحديث على مجريات الأمور في الجامعات الخليجية! ودار حول القضايا الإدارية، وتشكّل القرار الأكاديمي وشخوصه، وانحسار أعداد الأكاديميين الخليجيين، في الوقت الذي يُدار العمل فيه من قبل أجانب -ليسوا عرباً- في وظائف دنيا لا تحتاج إلى خبرات تراكمية مثل مُدخلات المعلومات؛ في الوقت الذي توجد فيه خريجات من نفس المدينة والجامعة تُرفض طلباتهن على رغم أنهن من خريجات الأقسام أو الكليات التكنولوجية في الجامعة نفسها. كما طال الحديث توظيف الأقارب والأصدقاء وأصحاب نفس الأيديولوجية في مراكز متنوعة من هذه الجامعات، في الوقت الذي ينحسر فيه العنصر المحلي، ويُحال مبكراً الى التقاعد! ولن نتحدث عن الرواتب الخيالية التي تُمنح لهؤلاء، على رغم أن العديد من المواطنين أكثر منهم كفاءة وخبرة. ولقد اتفقت الأكاديميات الثلاث على أن الأمور متشابهة في دولهن الثلاث. وأن اليأس قد تغلغل في نفوسهن نتيجة المفارقات الإدارية والأكاديمية التي يعايشنها. وهنالك أحاديث ذات شجون عن نمط الإدارة والتوجه في مؤسسات أخرى غير التعليم أو الجامعات، مثل الصحة والإعلام! وكان الرأي أن ازدياد الأعداد المليونية من الوافدين بهذه الصورة المخيفة قد لا يعرّض هوية البلدان فقط للضرر، بل يقوّض أيضاً فرصَ عمل المواطنين، ويُهدر أموالاً طائلة يتم تحويلها إلى الخارج. في الوقت الذي يُزج فيه بخيرة أبناء الوطن في هيئات التقاعد وإنهاء عُمرهم الافتراضي. ولذا فإن تحوّل مجتمع الخليج إلى أقليات (أقل من 10 في المئة في بعض البلدان) يجعل حظ هذه المجتمعات ضئيلاً من الاستفادة من الخدمات العامة كالصحة! ولقد عانى بعض شعوب الخليج من تدني الخدمات الصحية في بلدان تعدّ هي الأغنى عالمياً؛ حيث تصل فترة انتظار الكشف (التصوير المقطعي) لأكثر من ثلاثة شهور، هذا فضلاً عن كون 95 في المئة من مراجعي أقسام الطوارئ هم من العمال الوافدين، وبالتالي فإن حظ أو نصيب المواطن من خدمات الطوارئ ضئيل جداً؛ ناهيك عن انتظاره الطويل للحصول على نتائج التحليل من المختبر، وتكدس المرضى في الأماكن المخصصة لهم، لعدم قدرة غرف الإقامة المؤقتة على استيعاب كل هذه الأعداد. وتواجهُ المُواطنةُ، بصفة خاصة، معاناة كبرى بسبب منافسة الوافدة لها في مستشفيات الولادة، لأن المقيمين يجلبون أخواتهم وخالاتهم للاستفادة من الخدمات الراقية التي تقدمها مستشفيات الولادة في دول الخليج! وهذا يقلص نصيب المواطنة في الاستفادة من تلك المستشفيات! كما أن الذهاب إلى المستشفيات الخاصة لن يكون متاحاً لكل المواطنين، فليس كل أهل الخليج أثرياء، كما يفهم العالم الخارجي. إن التعليم والإعلام أصبحا غريبين أو مُغرّبيَن في المنطقة! وكثير من "نصائح" دُور الخبرة الأجنبية لم تثبت نجاعتها! وكثير من مشاريع تلك الدور أضرّت بالمواطنين، وجعلتهم يعيشون غرباء في أوطانهم، ذلك أن النموذج الانفتاحي ووسائله لم تكن على الخط الأسلم، بل إن تلك "النصائح" والمشاريع ضاعفت من استيراد الكفاءات الأجنبية، وإيداع الكفاءات المحلية على التقاعد. وهذه الكفاءات صرفت عليها الدول الملايين، ولم تستفد منها وقت العطاء! والأمر ينطبق على سلوكيات وأفكار الجيل الجديد! الجيل الذي يتعلم أن ينسلخ من أمته وثقافتها ولغتها، ومن وطنه وتراثه وتاريخه. ولقد أثر هذا التغريب حتى في شكل المواطن! فالملابس التي تروجها وسائل الإعلام والمسلسلات تساهم في ذلك الانسلاخ، ناهيك عن العادات الغريبة والأفكار التي تكون ضد الأسرة السعيدة أو الوطن الآمن. صحيح أننا نريد لأبنائنا أن يتعلموا اللغة الإنجليزية، ولكن عليهم ألا ينسوا اللغة العربية! ونريد لهم أن يتعلموا الكمبيوتر، ولكن عليهم ألا ينسوا التاريخ العربي وفضيلة الانتماء للأسرة والوطن. ونحن نشجع أن يتمأسسَ الشباب على حرية التعبير وتداول الرأي، ولكن علينا ألا نشجعه على أن يقضي طوال الليل في قراءة الأحاديث عبر الكمبيوتر أو الدخول إلى المواقع الزرقاء التي تحلق به بعيداً عن أمته وهمومها. إن الحرية شيء والتسطيح شيء آخر! إن التطور شيء والتأخر شيء آخر. وأعود للأكاديميات الثلاث اللاتي غطّت وجوههن الكآبة، لأكتشف أنهن يُحببنَ أوطانَهن ويَردن لها الأمن والاستقرار والتطور والتنمية، ولكنهن في ذات الوقت يتساءلن عن الإنسان وكيفية تطويره!؟ ما هو مصير الإنسان في ظل تلك الظروف الصعبة إداريّاً ونفسيّاً؟! هل سينقرض الإنسان -بكل هدوء- ودون تدخلات مناخية أو جيولوجية؛ كما حدث للديناصورات!؟ علماً بأنه لن توجد سفينة نوح أخرى تنقذه من الطوفان! أم سيبقى مثل "الأبوروجني" الأسترالي يعود إلى كهوفه وخيامه كلما زاد ضنك العيش عليه أو تحسّس تهديداً من غزاة!؟ بينما يتلذذ الأجنبي في عماراته وفيلاته ويخوته وسياراته الفارهة!؟