ذكر الرئيس أوباما في مؤتمره الصحفي حول تسرب النفط في خليج المكسيك أن ابنته "ميليا" البالغة 11 عاماً من العمر سألته في الصباح: "هل أغلقتم الثقب"؟ أثار السؤال المرح في القاعة، واستغل براءته معلقون سياسيون يعتبرون النفط نقمة ويحملونه المسؤولية عن خطر كارثة تغير المناخ العالمي. و"الكبار لا يفهمون بأنفسهم قط أي شيء، ويُتعب الأطفال القيام دائماً وأبدا بشرح الأمور لهم ً". يقول ذلك الأديب الفرنسي الطيار أنطوان إكزوبري في روايته "الأمير الصغير" المكتوبة للأطفال الكبار، وللكبار الأطفال. ونبدأ أولاً بطرح أسئلة الكبار، التي يُتعب الأطفال القيام دائماً وأبدا بشرحها لهم. ما سبب فشل خمس محاولات استراتيجية قامت بها شركة "النفط البريطانية" في وقف التسرب النفطي في خليج المكسيك خلال الأسابيع الستة الماضية؟ ولماذا عادت هذا الأسبوع إلى "القبة القمعية" التي جربتها قبل ثلاثة أسابيع ولم تنجح لأنها، حسب رأي الخبراء، استخدمت في تجميع التسرب النفطي في البيئة الصحراوية في حرب الخليج عام 1992 وليس لمعالجة تسرب نفطي على عمق 1500 متر عن سطح خليج المكسيك؟ وكيف فشلت في غلق "الثقب" استراتيجيات حملت أسماء موحية، مثل "قمة القتل"، التي ضخت 50 ألف برميل من الطين الثقيل لغلق البئر، واستراتيجية "قبعة الرأس" التي يُفترض أن تسحب معظم التسرب النفطي إلى ناقلة راسية على سطح الخليج؟ ولماذا تحولت ملايين اللترات من المواد الكيماوية التي استخدمت لتشتيت وتذويب الغمام النفطي إلى مشكلة بيئية بحد ذاتها تهدد بتدمير شعاب المرجان، والقضاء على الكائنات البحرية النادرة؟ وكيف فاجأ غمام النفط المتسرب خبراء البيئة البحرية عندما غاص إلى قاع الخليج، ولم يصعد، كما توقعوا إلى سطحه؟ ولماذا كان نشطاء البيئة أقرب للصواب، حين قدروا حجم التسرب النفطي بأكثر من خمسة آلاف برميل يومياً، فيما أصر مسؤولو الشركة البريطانية على أنه أقل من ألف، وظهر الآن أنه يبلغ ما بين 12 و19 ضعف تقديرات الشركة، وأن كمياته تجاوزت في الأسبوع الماضي ربع مليون برميل المتسربة عام 1989 من ناقلة النفط "إكسون فالديز" والذي اعتبر وقتها أكبر حادث من نوعه؟ وكيف تقاعست "النفط البريطانية" في اختبار عمل "مانع الانفجار" الذي يتكون من صمامات عملاقة في قاع المحيط تغلق فتحة البئر تلقائياً، وتمنع تسرب النفط والغاز، وقد كان عطله السبب في انفجار المنصة ومقتل11 شخصاً من العاملين على سطحها؟ ولماذا كانت جميع التقنيات المستخدمة في السيطرة على التسرب قديمة يعود تاريخها إلى العقدين الأخيرين من القرن الماضي؟ وما مصير "النفط البريطانية" التي تعد أكبر الشركات العالمية المختصة باستخراج النفط في البحار بعد خسارتها 46 مليار دولار من قيمتها في السوق منذ وقوع الحادث في العشرين من أبريل؟ شركات منافسة مثل "شيل" الهولندية، و"إكسون موبيل" تحوم كأسماك القرش المفترسة ولا يؤخرها عن الانقضاض للاستحواذ عليها سوى التأكد من حجم التعويضات التي ستلزم بدفعها، هل ستكون ألف دولار، أم ثلاثة آلاف دولار عن كل برميل متسرب في خليج المكسيك! والفارق بين المبلغين في المجموع مليار ونصف المليار دولار. وأخيراً ما موقف الدول والحكومات من الاستحواذ الذي قد يهدد بإيجاد احتكار نفطي عملاق، وموقف بريطانيا خصوصاً التي تعتبر الشركة من رموزها الوطنية التاريخية؟ وفي واشنطن ليس هناك، كما يقول العراقيون، "لحية مسرحة معفية من القص". وقد أطاح التسرب في الأسبوع الماضي بأول المسؤولين في الإدارة الأميركية، وهي إليزابيث بيرنباوم، مديرة "مصلحة المعادن" التي استقالت إثر إخراج ثلاثة من مساعديها من جلسة استجوابها في الكونغرس بحجة عدم توفر مقاعد كافية! والتساؤلات تدور حول علاقة وزير الطاقة "ستيفن تشو" الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، مع شركة "النفط البريطانية" التي منحت قبل ثلاث سنوات 500 مليون دولار المختبر الذي كان يديره لتطوير الطاقة البديلة في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي. هل لعبت العلاقة دوراً في موقف الإدارة الأميركية المتساهل مع الشركة البريطانية؟ بانتظار الجواب عن هذه الأسئلة، أعلن أوباما أنه يتحمل المسؤولية عن كل شيء، وأصبح أول رئيس أميركي ينطق بالكلمات الثلاث؛ "لقد كنت مخطئاً"، وإن قال إنه لا يزال يعتقد بأنه مصيب في توسيع التنقيب البحري، وأن الحاجة قائمة إلى مزيد من النفط لحين تطوير أنواع وقود بديلة. والنفط الذي يراد استبداله هو في الأصل طاقة شمسية حولتها كائنات حية مجهرية إلى طاقة كيماوية مخزونة في باطن الأرض منذ 500 مليون سنة. يعرف ذلك الأطفال الذين يتعبهم تعليم الكبار أن هذه المادة جهزت سكان الكرة الأرضية بمصابيح أحالت ليالي مدنهم المظلمة إلى نهارات مضيئة، وقدمت لهم وقوداً يحرك ملايين العربات، ويشغل بواخر عملاقة قاطعة البحار والمحيطات. هذه المادة الثمينة التي تسمى "الذهب الأسود" فجرت عبقرية العقل البشري في بناء عربات طائرة تنقل خلال ساعات ناساً بين مدن تفصلها آلاف الكيلومترات. ولا يفهم الكبار الدعابة العبقرية التي ابتكرت غرفاً مساحتها نحو 500 متر مربع يلتقي داخلها سنوياً ملايين الناس لأول مرة في حياتهم، وربما لآخر مرة، يجلسون، لصق بعضهم بعضاً على ارتفاع أكثر من عشرة كيلومترات عن سطح الأرض، يقرأون، ويشاهدون الأفلام، ويتسامرون، ويتناولون الطعام المشترك، وقد يغفون نائمين، كما لو كانوا داخل منازلهم. والكبار لا يفهمون بأنفسهم قط أن العراقيين لا يفكرون بالنفط بأنفسهم، بل أفكارهم تفكر لهم. وهي أفكار عمرها من عمر النفط في بلدهم الذي فتحوا عيونهم فيه منذ فجر التاريخ على شعلته الأزلية في "بابا كركر" في كركوك، واستخدموه قبل خمسة آلاف عام في تبليط الشوارع، وإكساء السقوف، واستخراج مراهم لعلاج الأمراض الجلدية لدى البشر والدواب. ويُتعب الأطفال القيام دائماً وأبداً بشرح الأمور للكبار الذين لا يفهمون إذا كان الإيرانيون لم يغفروا لحد الآن ما فعلته بهم واشنطن ولندن قبل نصف قرن، لأنهم أمموا النفط، فكيف يغفر العراقيون غزو واشنطن ولندن بلدهم لأجل النفط، وقتل وتشريد الملايين منهم، الذين انتصروا بتأميم النفط، وأقاموا بسواعدهم أول صناعة نفطية وطنية في الدول النامية، وأسسوا شبكات استراتيجية تنقله عبر منافذ على الخليج العربي، والبحر الأحمر، وخليج العقبة، والبحر المتوسط عبر تركيا، ولعبوا دوراً أساسياً في إنشاء "أوبك" التي عقدت اجتماعها التأسيسي في بغداد. "لمن، وضدّ منْ نسجّلُ البلاغَْ عن حروبِنا، وعن دمٍ يُراقْ"؟ تسأل الشاعرة العراقية ريم قيس كبه. "هل ضدَّ مجهولٍ؟ أم ضدّ مسؤولٍ؟ أم ضدّ مخبولٍ؟.. أم ضدَّنا؟ لأننا عراقْ ؟".