ربط الرئيس الأميركي أوباما، في خطابه الأخير (26 مايو 2010) الذي حدد فيه استراتيجية أميركا الجديدة، بين إسقاط مذهب الحرب العالمية على الإرهاب والبحث عن تعاون دولي من أجل إيجاد حلول تسوية للنزاعات الدولية القائمة. فهي عناصر أو مذاهب ثلاثة مترابطة بالفعل؛ أعني نظرية الحرب على الإرهاب، والانفراد بالقرار الدولي، ورفض الحلول التفاوضية الوسط. ولا يعني ذلك أن عصراً جديداً من السلام والتعاون والتفاهم سوف يخلف عهد انفلات القوة وما شهد فيه العالم من خراب ودمار. لكنه يبشر بولادة أسلوب جديد، أكثر نجاعة وأقل كلفة في الصراع من أجل المصالح القومية وفي التعامل مع النزاعات الدولية... أو هذا ما نأمله على الأٌقل. ولن يوقف المذهب الأميركي الجديد الحروب الخارجية والداخلية التي أشعلتها الحرب العالمية الشاملة على الإرهاب، لا في أفغانستان ولا في العراق ولا في غيرهما، كما لن يحول دون اندلاع حروب جديدة. لكن هناك بالتأكيد فرقا كبيرا بين السياسة المبنية على أولوية منطق الحرب، وتأمين كل شروط ربحها، مما برر ويبرر جميع المغامرات والانتهاكات، والسياسة المقامة على أولوية منطق الديبلوماسية والتي تضع الحرب بوصفها الخيار الأخير لحسم النزاعات. وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يعاد تشغيل الدبلوماسية بطريقة جديدة أيضاً، بحيث لا يكون همها الأول والوحيد حشد القوى وتعبئة الرأي العام من أجل خوض الحروب على جميع الجبهات، وإنما نزع فتيل الحروب المحتملة والسعي لحشد القوى السياسية والمعنوية الدولية في سبيل التوصل إلى تسويات عادلة ومقبولة من جميع الأطراف. لذلك لا يكفي الإعلان عن إسقاط مذهب الحرب الدولية على الإرهاب ليحدث التغيير. فلإحداث التغيير ينبغي أولا أن تتغير الرؤية الأميركية لاستراتيجية الأمن نفسها، بحيث يمكن تجاوز مفهوم الأمن الوطني أو القومي، حتى ولو كان أمن الدولة الأكبر، نحو مفهوم الأمن العالمي، الذي لا يمكن أن يقوم من دون ضمان الحقوق الأساسية لجميع الأطراف، ورفض المقاييس المزدوجة، والعمل الجدي الجماعي لتعزيز فرص وجود القانون الدولي. وهذا ما أرادت واشنطن ما قبل أوباما أن تتنكر له عندما أقرت مذهب الحرب ضد الإرهاب. ولا يكفي من أجل الوصول إلى هذا الهدف الانتقال من الأمن القومي إلى مفهوم الأمن الأطلسي الذي لا يزال يشكل سقف التحول بالنسبة لمعظم الدول الصناعية، خاصة الاتحاد الأوروبي الذي يريد لعب دور أكبر في بلورة الاستراتيجية الغربية والمشاركة في القرار الدولي. وربما كان حل التكتل الأطلسي أو تغيير أهدافه وبنيته الخصوصية هو الإشارة الصحيحة إلى ولادة عهد لا تشكل القوة، ولا التهديد باستخدامها ضد الأطراف الأضعف، قاعدة العمل على صعيد العلاقات الدولية. ولا يعني حل التكتل الأطلسي إلغاء أي قوة قادرة على التدخل لحسم النزاعات أو المشاركة في تطبيق القانون الدولي. بل المطلوب هو الخروج من الأطلسية نحو العالمية، والسعي إلى تكوين تكتل يتجاوز التكتل الأطلسي الراهن، ويسمح بنشوء قوة عسكرية دولية بالفعل، يمكن استخدامها لتطبيق القانون بعدالة وإنصاف وليس حسب ما تقتضيه مصالح الكتلة الأطلسية كما هو الحال اليوم. وكلاهما مترابطان، أقصد تكوين قوة دولية لحفظ السلام والقانون بديلا للناتو، والعمل على تعزيز المجموعة الدولية بقانون دولي لا تزال تفتقر إليه. وحتى يحصل التغيير ينبغي أيضاً أن يتغير رجال الدبلوماسية الذين عملوا خلال العقود الماضية كمستخدمين عند رؤساء الأركان وخادمين لسياسات الحرب والعنف والإكراه، واستبدالهم برجال سياسة وحكمة وعقل. وحتى يكون التحول في اتجاه تفعيل منطق الدبلوماسية على حساب منطق الحرب مقنعاً للرأي العام الدولي، ينبغي توجيه الموارد الغزيرة التي كانت موجهة للحرب وسباق التسلح ومراكمة القوة إلى أهداف ومناشط جديدة، سلمية، والتركيز بشكل أكبر على تطوير موارد الدول الفقيرة ومساعدتها على الخروج من تخلفها وفقرها. فالابتعاد عن أفق الحرب، وبناء أسس السلام، يستدعيان العمل على إزالة الهوة المتزايدة التي تفصل ثلاثة أرباع البشرية عن الربع الوحيد الذي يحتكر اليوم معظم الموارد الإنسانية. وهو لا يتجسد في خريطة توزيع الموارد الجغرافية السياسية وإنما عبر خريطة التوزيع الاجتماعية التي تكاد تجعل من بعض النخب القليلة المسيطرة على مقاليد الأمور في البلدان الفقيرة امتداداً مباشراً للقوى العالمية المسيطرة على حساب الشعوب المستعبدة. وحتى يقتنع الرأي العام الدولي، وفي مقدمه تلك الشعوب التي عانت منذ عقود، بل قرون، من الغبن والظلم والعدوان، بصدق الدعوة إلى تقديم الدبلوماسية على الحرب، ينبغي على القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أن تحشد قواها من أجل إغلاق ملف الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، سواء ما تعلق منها بحقوق الشعوب الجماعية أو حقوق الأفراد، وأن لا تسمح للنظم غير الديمقراطية وغير الشعبية القائمة بقوة القمع والإرهاب أن تفسر العودة إلى الدبلوماسية في العلاقات الدولية كرسالة لإطلاق يدها في استخدام العنف وخرق القانون داخل حدودها. وأول المناطق التي ينبغي امتحان مبادئ السياسة الأميركية الجديدة فيها، هي بالتأكيد، أو ينتظر أن تكون، منطقة الشرق الأوسط، حيث بلغت النزاعات وتضارب المصالح مستوى ليس له حالياً نظير في مناطق العالم الأخرى، سواء أكان الأمر يعني دول المنطقة في مواجهة الدول الكبرى، أو الدول الكبرى في مواجهة بعضها البعض. ومن هذه المصالح التي يتنازعها الأقطاب الدوليون: الهيمنة على منطقة متوسطية حساسة استراتيجياً، والتحكم بمصادر الطاقة الرئيسية في عالم اليوم، والموقف من حل المسألة اليهودية التي شغلت الغرب خلال قرون طويلة، وتحديد مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط، وحدود توسعها ودورها فيه. وفي سياق هذه المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية تدخل مسألة التنمية الاقتصادية والتقنية ومن ثم الاجتماعية لارتباطها بها. وهذا ما يفسر الضعف الملفت في حجم الاستثمارات الخارجية والداخلية المكرسة للبحث والتقنية والتنمية الصناعية والاجتماعية في العالم العربي، رغم الثروات الكبيرة التي توفر موارد استثنائية لانطلاق ثورة صناعية وتقنية. وبالنسبة للشعوب العربية، من الطبيعي أن تكون حقوق الشعب الفلسطيني هي المادة الأولى في امتحان التوجهات الجديدة، وأن يتجسد ذلك، على الأقل في كف الدول الكبرى الأكثر تأثيراً في المنطقة عن سياسة النعامة التي مارستها حتى الآن تجاه الكارثة الإنسانية والسياسية والأخلاقية الحاصلة في فلسطين، ووقف مهزلة التغطية على تمويل سياسات الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية بخطابات مكرورة حول حتمية التسوية السياسية وتأكيد الحق في دولتين، وهي الخطابات التي تجعلها الوقائع على الأرض خطابات مزعجة يصعب احتمالها.