أجد نفسي محرجاً في الكتابة عن حزب الدعوة الإسلامية بما لا يرتضيه، ومطالبته بالتنحي عن السلطة، بعد ست سنوات على سدتها، ذلك لأن جمهرة من أصدقائي هم من المنتسبين لهذا الحزب، قبل السلطة، ناهيك عن شقيق أُعدم (1980) بجريرة الانتساب نفسه، وأشقاء تركتهم صغاراً، ولما كبروا تلمسوا طريق شقيقهم، بعد أن سمعوا من الحزب أن الإسلام سينتهي بلا حاميه "الدعوة"! سيفهم الطلب على أنه تعارض أفكار مع الطالب بالعلمانية، خارج رمية "إخوان المسلمين"، على أنها الإلحاد، إنما أراها على هدى "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ" (صحيح مسلم)، وعلى هدى فكرة الانتظار، فالدَّين لا يدير الدولة بعدالة إلا بإشراف معصوم، أما فكرة التمهيد لتلك الدولة فأراها تحايلاً على الفكرة نفسها. على أية حال، عند المأساة يبحث المبتلون عن اجتماع، وعلى حدِّ ما يُنسب إلى الإمام موسى الكاظم (ت 182): "نواصلُ مَنْ لا يستحق وصالنا... مخافة أن نبقى بغير صديقِ" (أعيان الشيعة)، فسقف التباعد عند يسارنا ويميننا مرتفع جداً، ومازال حتى بعد شلل العقائد السياسية مع تبدل الدُّنيا. تعلمنا أن الأحزاب عشائر، والخروج منها خيانة، ومرَّ زمن على بلادنا يبرأ الأخ من أخيه إذا ما خالف هواه الحزبي! مَنْ يقرأ ما كُتب ويسمع ما قيل عن تاريخ "الدعوة" يصعب عليه أمران: معرفة المؤسس، وتاريخ التأسيس المضبوط، مع أن أهل الحزب يرفعون السيد محمد باقر الصدر (أُعدم 1980) مؤسساً وملهماً، ولم يبق من تقشفه وأمانته في ظل سلطتهم إلا الصورة. يذهبون بتاريخ الـتأسيس إلى ما قبل (1958)، بعداً لما قيل أن النشأة كانت ردة فعل لطغيان اليسار. لكن، مهما أراد الحزب الهروب من مذكرات المبادرين إلى التأسيس لا يمكنه تجاوز لحظة ظهور "جماعة العلماء"، تلك التي أُستل اسمها من رسالة آية الله محسن الحكيم (ت 1970) إلى حكومة بغداد الجمهورية بعد 14 تموز (مذكرات مهدي الحكيم)، وفيها شكوى من اليسار. لا ينفي أن "الدعوة" كبقية الأحزاب هدفها السلطة، فأخذ يتصاعد طموحه إليها مع تصاعد الثورة الإيرانية، بل اعتقدَ آنذاك أنها قاب قوسين أو أدنى. وعلى أساس طلب الدولة الإسلامية أنضم السيد الصدر للحزب، لكن الرَّجل كان فقيهاً، لا يأخذ الأمور بلا دليل شرعي، لذا راجع موقفه، ووجد الدليل ليس كافياً في تجاوز ظهور الإمام المهدي، فعاد وانسحب، بل حرم انتماء طلبة الحوزة الدينية للحزب، لهذا السبب أو لآخر. أغرت الثورة الإيرانية الحزب والصدر معاً، فالحزب وجد الولي، وهو وجد الجماهير، لكنها كانت مجازفة، حيث أسفر الوهم عن مجازر بالحزب، ورواد الجوامع والحسينيات، فالحكم عقيم! لكن طلب السلطة تواصل وأسس الحزب ميليشيا قاتلت مع الجيش الإيراني، حتى بعد إرجاع الإيرانيين للأرض، وكان الأمل بالتغيير عبر الحرب، فقيل إنه كان للحزب معسكر تدريب "الشهيد الصدر"، وميليشيا "جيش الغضب". صعد الحزب إلى السلطة، وهي هاجسه وهاجس الأحزاب كافة، عبر الائتلاف الشيعي، مقابل ذلك تكور الحزب الإسلامي (الإخوان المسلمون) داخل أهل السُنَّة، وهذا هو الإسلام السياسي، ببلد مثل العراق، لا يعيش خارج مياه الطائفة. استلم رئاسة الوزراء (2005)، وبعد عدم تمكن الجعفري من إدارة دفة العراق، اختلفت الأطراف، ومع شدَّة تمسكه- إنها رئاسة وزراء العراق- شرط الحزب أن يكون المالكي البديل، وإلا سيتناثر الائتلاف الشيعي. وحتى هذه اللحظة يصرُّ الحزب على الرئاسة، لكن هذه المرة تحت عنوان "دولة القانون"، بينما صُلب هذا الائتلاف هو "الدعوة"، وما هو موجود من أفراد للصورة فحسب، وحتى الأسماء التي قدمتها "دولة القانون" إلى لجنة الحكماء، للتوحد مع "الوطني"، كانوا ستة دعويين من سبعة! حاول الحزب، خلال الست سنوات، غزو مؤسسات الدولة بأعضائه، ذلك يبدو واضحاً من مجلس الوزراء إلى بقية دوائر الدولة، مع ضم ميليشياه إلى الجيش، ومنحَ رتباً لمجاهديه، وتعاظم الفساد إلى درجة مخيفة، فتراجعت التربية والتعليم لأن وزيرها القائل: "لي الفضل في بناء العقل العراقي"، أخذ يهدمه، لأنه غير مؤهل لهذه المهمة الكبرى، والتجارة أخبارها معروفة. صحيح أن جميع الأطراف لديها فساد، وأن المحاصصة تعيق المحاسبة، لكن لا يبدو لدى الحزب الترياق، فهو يعتمد الحزبية في الوظائف، وصفقات المقاولات، وقد أخذ يبني قاعدة لنفسه، وكان واضحاً استعمال إمكانيات السلطة في الانتخابات، من مؤتمرات العشائر ومكاتب الإسناد، إلى تسخير الدوائر، والحد من المنافسين بآلة السلطة. وأهم من هذا لم يتقدم خطوةً لتنقية الأجواء مع الجوار، وهذا هو باب الاستقرار والعُمران. لكي لا يتراكم ما هو موجود لابد أن يُقال لـ"لدعوة": كفاية، وليأت شخص آخر من قائمة فازت بأكثر الأصوات، أو حسب تخريجة أحد القضاة، "الكتلة الأكبر". لقد وعد المالكي أن يكون (2008) حاسماً مع الإرهاب، و(2009) لتصفية الفساد، وأنه ضد التمترس الطائفي، لكن الفساد تعاظم، والإرهاب مازال خطراً، وعاد وأَتلف طائفياً، بشرط الرئاسة، واللقاء الأسبوعي بالجماهير بمسقط رأس رئيس الحزب والحكومة، وما يفيض على السائلين من هبات، يُذكر أنه لا جديد لدى "الدعوة" على ما كان. يرى الدعويون أن الجماهير التي ذبحت الخراف تحت أقدام رئيسهم من مال الدولة، والعشائر التي جُندت، تُرقيهم إلى رئاسة الحكومة، فالمهرجانات كانت بيعةً، لذا لم يصدقوا ما فُرز من نتائج. فلو عاد رؤساء الحزب إلى الماضي قليلاً، وأطلوا من على مشارف أسيجة السلطة العالية، لوجدوا الكثير مما يتحملونه في هذه السنوات، يوم كانوا يعدون للسلطة السابقة ذنوبها! نعم، السلطة مغرية لا تُري صاحبها إلا أنه على صواب وسواه على باطل، هو الديمقراطي وسواه الدكتاتوري، وهذا ما يوصل إلى الجنون. يُنقل عن الحسن البصري (ت 110 هـ) قوله: "لو كان الرَّجل كلما قال أصاب، وكلما عملَ أحسن، لأوشك أن يجن من العُجب" (الجاحظ، كتاب الحيوان). ست سنوات كفاية! أجمل لـ"لدعوة" وللبلاد، فبعدها يتمكن من تمييز أهل المبادئ من أهل المصالح، وسيزيد مقامه بين النَّاس لا عبر مؤتمر عشيرة أو مكتب إسناد، أو إسداء منصب لمَنْ لا يستحقه، أو توزيع ريع المقاولات بمظاهر التدين الفارقة، إلا أنه ما جدوى تلك المظاهر "ويشكوك جارٌ بائسٌ وخدينُ" (اللزوميات). أراها ست سنوات كفاية..!