الجزء الثاني من عنوان هذه المقالة استعرته من عنوان مقالة كتبها الوزير الإسرائيلي السابق، يوسي ساريد، أمس في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن جريمة الهجوم الذي قامت به فرقة من القوات الخاصة للبحرية الإسرائيلية في عرض البحر ضد قافلة الحرية المتجهة لإغاثة أهل غزة. يعني ساريد بالحمقى السبعة: رئيس الوزراء نتنياهو، وبقية الوزراء؛ ليبرمان، وباراك، ويآلون، وبيجين، وبن إليعازر، وياشاي. وهم حمقى، كما يرى الوزير السابق، لأنهم كانوا سبعة وزراء في مواجهة سبع سفن، وليس سبع مدمرات أو حاملات طائرات. ومع ذلك لم يتمكن هؤلاء السبعة من رؤية ماهو أبعد من أطراف أنوفهم. تجلت حماقة الوزراء السبعة، كما يعتقد ساريد، في أن قرارهم بالهجوم على القافلة كان يهدف إلى تحقيق نصر إسرائيلي آخر. لم يخطر ببالهم أنه قد ينتهى بهزيمة إعلامية وأخلاقية مدوية. ولتأكيد حماقة الوزراء السبعة يستحضر ساريد مثال معركة الطرف الأغر، وكيف أن الأدميرال هوراشيو نيلسون، مثله في ذلك مثل قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية يوم الإنزال العظيم (D-Day)، كان يدرك بأن مستقبل بلاده كان على المحك. أما بالنسبة للوزراء السبعة فإن كل يوم هو "يوم إنزال عظيم". تحمل مقالة ساريد دلالة أعمق مما يبدو من سطورها، وربما أعمق مما كان الوزير يفكر فيه وهو يسطرها. وأعني بذلك مأزق الدولة الإسرائيلية في المنطقة، أمام طبيعتها أولا، وأمام القانون الدولي والرأي العام العالمي ثانياً، وأمام الفلسطينيين، وما يمثلونه لها على وجه التحديد، ثالثاً. مأزق إسرائيل أنها دولة لا تملك من عناصر الدولة إلا تمظهراتها السطحية: سلطة على شعب في حدود أرض جغرافية معينة. لكن ماهو مصدر هذه السلطة؟ وهل يقطن الشعب تلك القطعة الجغرافية حقاً، أم أنه طارئ عليها، ولا تربطه بها إلا علاقة استيطان فرض نفسه بقوة السلاح؟ اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على ثلاثة عوامل: تفوق عسكري على جيرانها، ودعم دولي غير محدود، وإعلام دولي لا يدقق كثيراً في سياساتها أو تجاوزاتها، وبالتالي شكل نوعا من الغطاء لتلك السياسات. كان ذلك ممكن، بل كان سهلا بعد قيام الدولة الإسرائيلية مباشرة. فالغرب بعد الحرب العالمية الثانية كان متعاطفاً مع اليهود جراء ما حصل لهم على أيدي النازيين. كان يبحث عن وسيلة لإخراج ما كان يعرف حينها بـ"المسألة اليهودية" من تاريخه تماماً، وإعادتها إلى حيث كانت، إلى الشرق الأوسط. وكان يبحث عن حليف له في المنطقة يرتبط به برباط مقدس لا ينفصم. من هنا كانت فكرة إقامة إسرائيل بالنسبة للغرب أحد مرتكزات الخروج من تاريخ الحروب الأوروبية. لكن مأزق إسرائيل أن التاريخ يتحرك، وطبيعتها ثابتة. تغيرت الظروف، والنظام الدولي تغير أيضاً. الإعلام الذي كان يوفر الغطاء لإسرائيل لم يعد ينفذ المهمة كما كان يفعل من قبل. ليس بالضرورة لأنه لم يعد قادراً على ذلك، بل ربما لأنه، أو بعضه لم يعد مقتنعاً تماماً بتفاصيل تلك المهمة. هذا لا يعني أن هذا الإعلام صار أكثر تعاطفاً مع الحق العربي أو الفلسطيني، وإنما يعني أن الظرف الإعلامي والثقافي، والسياسي كذلك، تغير بحيث لم يعد يتسع لمهمة إعلامية تم تصميمها في أواخر القرن التاسع عشر. غيرت العولمة دور الإعلام ووظيفته. كان الإعلام الأميركي أو البريطاني مثلا يخص الأميركيين والبريطانيين فقط. أما الآن فلم يعد الأمر كذلك. هناك إعلام أميركي للأميركيين، لكن هناك إعلاما أميركيا عالميا أيضاً. مع انفتاح السوق العالمية، أصبح من الضروري أن ينفتح الإعلام أيضاً، وأن يخاطب كل الشعوب، بما في ذلك العرب. إنها ثورة الاتصالات وانتشار العولمة. صار للعرب، مثل غيرهم، نصيب كبير في هذا الإعلام، وصار لهم صوت يتجاوز حدودهم الجغرافية. ومن ثم انتهت تلك الأيام التي كانت إسرائيل تنفذ فيها انتهاكاتها، وجرائمها بعيداً عن أعين الكاميرات، والجوالات، وفضول الإعلاميين من كل مشرب من مشارب الثقافة والسياسة. سياسياً صار من الممكن أن يأتي إلى البيت الأبيض رئيس أسود اسم أبيه حسين. وصار من الممكن أن تقود تركيا حملة دبلوماسية حيوية ضد حروب إسرائيل، وسياساتها الاستيطانية في فلسطين، وصار من الممكن أن تطالب السويد، الدولة الأوروبية، بمحكمة دولية للنظر في الانتهاكات الإسرائيلية. حتى الدول الأوروبية التي لم يطلها هذا النوع وهذه الدرجة من التغير، لم تتمكن من تفادي الموجة تماماً. وبالتالي لم تعد تجاهر بدفاعها عن إسرائيل وانتهاكاتها. أصبحت تغلف مواقفها بعبارات لا تحمل في طياتها الشجب الواضح، لكنها لا تحمل التأييد أيضاً. مثال ذلك الموقف الفرنسي الأخير القائل بأنه لم يكن هناك ما يبرر استخدام القوة ضد قافلة الحرية. البيت الأبيض من جانبه، لم يتخذ موقفاً واضحاً مما حصل الاثنين الماضي في انتظار جلاء الأمر، وتوفر الحقائق كاملة. لكن إسرائيل بحكم تكوينها، وطبيعتها لا تملك مجاراة حركة التاريخ. وإذا كان الوزير الإسرائيلي، ساريد، ينتظر أن يأتي اليوم الذي لا تضطر فيه حكومته إلى الانزلاق نحو مثل هذه الحماقات، فإن انتظاره سيطول كثيراً، وقد لا يعيش بما يكفي لأن يرى تغيراً في هذا الاتجاه. لا تستطيع إسرائيل إلا أن ترتكب الحماقة تلو الأخرى. هي دولة ليست طبيعية مثل بقية الدول. ومن ثم فإحساسها الأمني هو الآخر إحساس غير طبيعي، لأنه إحساس لا حدود له، ولا معايير واضحة يمكن أن يتوقف عندها. ويتضاعف المأزق الإسرائيلي عندما يأتي إلى الحكم في تل أبيب طاقم يميني مثل الوزراء السبعة الحمقى، كما يصفهم الوزير. تاريخ الحماقة الإسرائيلية طويل جداً. تبدت هذه الحماقة في أجلى صورها مع السادات، ومع مصر واتفاقية السلام معها، ومع الأردن، وعرفات، وأبومازن. وقبل ذلك وبعده مع مبادرات السلام العربية، ومع إجماع العرب على التخلي عن خيار الحرب، ومع مفاوضات السلام، ومع تسليم العرب بالتنازل عن حقوقهم في الأرض التي يمنحهم إياها قرار التقسيم الشهير. وهاهي الحماقة الإسرائيلية تطال حتى غير العرب في قافلة الحرية. تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي كانت تقيم حلفاً مع إسرائيل، وعلى مدى عقود من الزمن. لكن حتى هذه لم تسلم من حماقة الطاقم الحاكم في تل أبيب، وهو ما أثار عاصفة نقدية في الإعلام الإسرائيلي، واعتبرته صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها أمس أحد ضحايا السياسة الخرقاء. ولعل أفضل من تناول مأزق إسرائيل هو الكاتب اليهودي الأميركي، ريتشارد كوهين في صحيفة الـ"واشنطن بوست" الأميركية. كان ذلك في مقالة له عام 2006. كان كوهين يعلق على الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في صيف ذلك العام. وقد توجه بحديثه حينها إلى الحكومة الإسرائيلية بضرورة أن لا تنسى في غمرة الحرب أن وجود الدولة كان "غلطة تاريخية"، وأن لهذا صلة مباشرة بهذه الحرب، وبكل الحروب والصراعات التي سبقتها. هل يمكن تصحيح هذه الغلطة؟ بالنسبة لكوهين التصحيح غير ممكن. الممكن الوحيد، كما يرى، هو أن يتكيف العرب والمسلمون مع تبعات هذه الغلطة؟ لكن كيف يمكن التكيف مع غلطة تنتهك الحقوق بشكل مستمر، ولا تتوقف، ولا يمكن أن تتوقف عن استيلاد الحماقات المتواصلة؟ لماذا لا يراجع أصحاب الغلطة أنفسهم، وأعني بذلك الأوروبيين والأميركيين؟ لا أبالغ إذا قلت بأن إسرائيل لن تترك لهؤلاء فرصة للاستمرار في الهروب من مواجهة هذا الاستحقاق. ولعل إسرائيل مثلت في لحظة ما مخرجاً تاريخياً للغرب، ورصيداً استراتيجياً كذلك. لكنها بحكم طبيعتها، وما تفرزه من سياسات وحماقات، وبحكم أنها ولدت من رحم غلطة تاريخية، فإنها سوف تتحول مع الوقت إلى عبء استراتيجي على من اعتبرها غير ذلك.