في كتابه "عملية الاندماج الأوروبي"، يستعرض بشارة خضر المراحل والسياقات المختلفة لقيام الاتحاد الأوروبي، والعقبات الماثلة في حاضره، والتحديات التي تعترض مستقبله، ويحاول فهم هذه العملية الاندماجية في بعديها؛ الجغرافي والمؤسسي، وإبراز خصوصياتها كمزيج من الأساليب والرؤى المختلفة، وأخيراً يقدم رؤية استشرافية حول إشكاليات المراحل القادمة وقدرة الاتحاد على مواجهتها. وكما يبين الكتاب، فقد بدأ الاتحاد الأوروبي كنادٍ صغير من ست دول في الخمسينيات، ثم تطور وأصبح اتحاداً يضم 27 دولة، بكتلة سكانية تصل نحو 500 مليون نسمة. فالقارة التي عانت لقرون من الصراعات الداخلية والحروب الدينية، أصبحت الآن موحدة، وبات الاتحاد الأوروبي المنطقة الأكثر تنظيماً واندماجاً في العالم، كونه يمثل تجربة فريدة في المزج بين الكونفدرالية والاتحاد الدولي البسيط، إذ يربط بين دوله في تضامن عضوي عبر الحدود، لكن غالباً دون أن يكون لها صوت واحد على الساحة الدولية. لقد مر المشروع الأوروبي بالعديد من المحاولات الهادفة إلى إدماج وحداته، وسار منذ معاهدة روما التي أنشأته عام 1957، في اتجاهين للتوسع والتعمق، حيث انضمت تباعاً 21 دولة إلى الدول الست المؤسسة، وتحولت السوق الأوروبية المشتركة إلى "سوق موحدة"، كما تغير الاسم من "الجماعة الأوروبية" إلى "الاتحاد الأوربي". وكما يعتبر المؤلف فإن إحدى الخصوصيات الرئيسية للاتحاد الأوروبي كونه التزما بحماية وتقوية تنوعه الداخلي بقدر ما هو التزم بتأمين الوحدة، وهي مهمة ليست سهلة على الإطلاق، إذ أن التكيف مع الاختلافات والسعي نحو الوحدة، عمليتان متضاربتان واقعياً ونظرياً. لقد شق الاتحاد الأوروبي طريقه وسط مصاعب جمة، وواجه عثرات وانتكاسات، لكنه واصل ترسيخ وحدته، وتمتين بنائه المؤسسي، وتوسيع نطاق عضويته. وهي العملية التي ووجهت بانتقادات عديدة، إذ ثمة من حذر من توسيع الاتحاد دون تقويته، بينما انتقد آخرون البيروقراطية المفرطة للمؤسسات الأوروبية وميلها نحو التدخل التشريعي المتزايد ونقص الديمقراطية. وما فتئت عملية الاندماج الأوروبي تتعرض للعديد من المآزق والتحديات؛ يتعلق بعضها بقضية اللغة، وتكلفة التوسع، والمعوقات المؤسسية، وبعضها الآخر بالبنية الديمغرافية والمتغيرات الجغرافية، علاوة على التحدي الناجم عن الخلاف حول تصور ما ينبغي أن تكون عليه أوروبا في المستقبل. ورغم عمر تجربته، لايزال الاتحاد الأوروبي، كما يعتقد المؤلف، ذا قدرة محدودة على العمل كقطب دولي قوي ونافذ، فهو يفتقر للقيادة؛ فحتى في ظل اتفاقية لشبونة التي استحدثت منصب رئيس الاتحاد، مايزال يعاني من افتقاره للقيادة الفعالة والمؤثرة دولياً. كما يعاني من قصور في مواجهة آثار العولمة؛ فرغم كونه قطباً اقتصادياً كبيراً (26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، فهو ليس دولة فيدرالية عظمى مثل الولايات المتحدة أو حتى ألمانيا... ما يقلل من قدرته على منافسة اللاعبين الدوليين. لذلك فشل الاتحاد الأوروبي في تعزيز النظام الدولي القائم على العدل والسلام، ولم يستطع منع الحروب خارج حدوده، كما بقي صوته في الغالب غير ذي أهمية. ويعتقد المؤلف أن ثمة تحديات ستؤدي إلى إبطاء عملية الاندماج الأوروبي؛ في مقدمتها دستور الاتحاد الذي جاء رفضه في الاستفتاءين الفرنسي والهولندي، ليمثل انتكاسة حقيقية للمشروع، وليدل على تراجع في مستوى التأييد الشعبي للمقاربة الفيدرالية. إضافة إلى افتقاره لنموذج اجتماعي مشترك، حيث تطور كل دولة عضو نموذجاً اجتماعياً خاصاً بها. كما أن فشل الاتحاد في إجازة دستوره أدى إلى وضع مقترحات الحكم الرشيد والمواطنة الأوروبية جانباً على الرف. وجاءت التوسعات المتتالية في عضوية الاتحاد لتفاقم معضلة التحدي اللغوي، حيث توجد الآن 27 دولة عضواً و23 لغة رسمية في الاتحاد. كما تبقى قضية الهوية الأوروبية تحدياً آخر يصعب تجاوزه في ظل ذلك العدد من الدول واللغات والهويات المتباينة. وثمة أيضاً خطر التحدي البيئي المتفاقم، شأنه شأن أمن الطاقة الذي يضع الاتحاد الأوروبي أمام تحد لا يقل خطراً عن غيره من التحديات الأخرى، مثل التحدي الديمغرافي، والتحدي المتعلق بالاقتصادات الناشئة. وعلى العموم فالاتحاد الأوروبي يواجه جملة من التحديات تتعلق بكفاءة مؤسساته وشرعيتها الديمقراطية، وسبل التعاطي مع التوسعات السابقة والقادمة، واستراتيجيات التكيف مع الاقتصاد المعولم، وإمكانية الاتفاق على سياسة خارجية وأمنية مشتركة، والتعاطي مع الهموم الديمغرافية والبيئية. إن مواجهة تلك التحديات، يقول المؤلف، لن تكون مهمة سهلة، لذلك لا يمكن التنبؤ بمستقبل الاتحاد الأوروبي، حيث أصبحت الاختلافات الثقافية داخله أكثر حساسية وحدة. كما أن النزاع حول قضايا كالطماطم والشوكولاته ولحم البقر، وعلى أمور أكثر أهمية مثل العراق وفلسطين وكوسوفو... يُخفي عداوات تاريخية وضغائن عميقة، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها الثقيلة على صورة الاندماج الأوروبي. وكذلك عودة النزعات العرقية وظهور اليمين المتطرف، حيث يمكن لعملية التوسع والاندماج أن توقد صراعات الرؤى والأولويات والأجندات. محمد ولد المنى الكتاب: عملية الاندماج الأوروبي المؤلف: بشارة خضر الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2010