من علامات التقدم أو التخلف في المجتمعات علاقتها بالزمن وإحساسها به. فالزمان هو جوهر الإنسان الذي يجعله محدداً في الحياة بين الميلاد والوفاة. وهو جوهر المجتمعات، تخلفها أو تقدمها، الذي يجعلها محدودة العمر في التاريخ. ولذلك اهتم به الفلاسفة المعاصرون وجعلوا الإنسان هو الوجود الزماني عند برجسون وهيدجر. كما اهتم به الاجتماعيون لقياس تطور المجتمعات، تقدماً أو تخلفاً في الزمان. كما اهتم به فلاسفة التاريخ لتحديد أعمال المجتمعات في التاريخ وأحقابها المختلفة ودوراتها التي قد تبدأ ثم تعود من جديد. وأبعاد الزمن ثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل. يقرر ذلك العقل البديهي والإحساس العام. ويؤكده الفلاسفة المعاصرون كأبعاد ثلاثة للوجود الإنساني. وعلى رغم هذا التمييز بين أبعاده الثلاثة إلا أنه زمان متصل، جوهره السيلان الدائم، الماضي يصب في الحاضر، والحاضر يتجه نحو المستقبل. الحاضر نهاية الماضي وبداية المستقبل. لا يتوقف الماضي. ولا يغيب الحاضر. ولا ينعدم المستقبل. الماضي يمد الحاضر بتجاربه الذاتية ويصبح وعياً تاريخيّاً أو ذاكرة جماعية. والحاضر تتراكم فيه خبرات الماضي وتتحول إلى عمق تاريخي. والمستقبل تطور طبيعي للماضي والحاضر ونتيجة لمقدمات يستطيع الحاضر، في ضوئها، أن يتنبأ بـ"سيناريوهات" المستقبل. أما العربي فإنه محاصر في الزمن بين هذه الأبعاد الثلاثة التي تمثل ثلاثة حوائط في وعيه الذاتي تمنعه من الحركة إما عن طريق استرجاع الماضي أو الإحساس بالحاضر وتشخيصه في أي مرحلة من التاريخ هو يعيش أو عوائق الإعداد للمستقبل وأي المسارات الممكنة يمكن تحقيقها. فالماضي حقيقة في ذاتها. ما زال مسيطراً عليه، طاغيّاً على الحاضر والمستقبل. نتحدث عن عهد ظهور الإسلام وكأنه حدث البارحة. الأمس هو اليوم والغد. ولذلك يسهل ظهور الحركات الماضوية التي تريد إرجاع الحاضر إلى الماضي. فالتقدم إلى الوراء. هذا هو طريق المستقبل. أصبح الماضي يكبل الحاضر ويمنعه من الانطلاق نحو المستقبل. في حين أن الماضي انتهى عصره، وانقضى زمنه. والتاريخ لا يرجع إلى الوراء. والزمن أيضاً حامل التاريخ في تقدم مستمر، من الأمس إلى اليوم إلى الغد. ما زلنا في العقائد نتحدث عن الشيعة والسُّنة، والمعتزلة والأشاعرة، والإمامية والزيدية، والمرجئة والخوارج، وكأنها فرق نشأت اليوم وليس منذ أربعة عشر قرناً، في ظروف معينة، وهي الخلاف على الخلافة. ولم تعد هذه الظروف قائمة الآن. ندخل في معارك لسنا طرفاً فيها، الفتنة الكبرى والفتنة الصغرى. ونحكم من على حق ومن على باطل، مَن المظلوم ومَن الظالم. ما زلنا نكفر مَن حارب مَن؟ نتحدث عن عقائد ونستدعي سجالات هي في الحقيقة مذاهب سياسية نشأت في ظروف تاريخية معينة. وقد تغيرت هذه الظروف الآن. وألغيت الخلافة في 1924. ووقعنا جميعاً تحت الاحتلال الغربي. ثم قمنا بحركات تحرر وطني حصلنا فيه على الاستقلال. ثم ضاع هذا الاستقلال من بين أيدينا فأصبحنا دولا مستقطبة لاستعمار الأمس. وعاد الاحتلال من جديد إلى العراق وأفغانستان. وما زالت فلسطين وأجزاء من سوريا ولبنان واقعة تحت الاحتلال الصهيوني. فأين نحن الآن من سقيفة بني ساعدة، والبيعة الصغرى والبيعة الكبرى، ومن أحق بالخلافة، من الصحابة؟ ما زلنا نكرر التراث القديم وكأن الأمة لا تستطيع إلا أن تنتج تراثاً واحداً في مرحلة تاريخية واحدة هي المرحلة القديمة. نكرر في فقه المذاهب الأربعة وفروعها وكأن الأمة لم تستطع أن تنتج مذاهب فقهية جديدة منذ منتصف القرن الثالث حتى الآن على مدى اثني عشر قرناً، وكأن الظروف لم تتغير والمصالح لم تتبدل. وما زلنا نضع في كتب الفقه الحديثة موضوعات الفقه القديم بما في ذلك السبايا والغنائم والرق! وهي موضوعات تجاوزها الزمن. ما زلنا نبدأ بجزئيات العبادات ونثني بالمعاملات ومع ذلك كلنا يعرف كيف يتوضأ ويصلي ويزكي ويصوم ويحج ولا أحد منا يعرف كيف يتعامل مع النظام العالمي الجديد، والعولمة، والأزمة المالية، والعلاقات الدولية والحرب والسلام، على رغم اجتهادات الفكر السياسي الإسلامي الحديث. وما زلنا في الفلسفة نكرر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن باجة والرازي الذين تعاملوا مع الفلسفة اليونانية والرومانية غرباً، والفارسية والهندية شرقاً، ولا نتعامل مع الغرب الحديث أو الشرق الحديث وكأن الفلسفة الإسلامية فترة واحدة في تاريخها وليست نتاج كل عصر إذا ما تغيرت الأطر الثقافية والحضارات المجاورة. ولا يوجد فلاسفة إسلاميون إلا في القليل النادر يتعاملون مع الفلسفات الحديثة غرباً عند ديكارت وكانط وهيجل وبرجسون وهوسرل أو شرقاً عند فلاسفة الهند والصين واليابان المحدثين. وما زلنا نستعيد التصوف القديم بمقاماته وأحواله، الصبر والتوكل والرضا والقناعة والخوف والخشية، وكلها قيم نشأت في ظروف معينة عندما صعب تغيير الواقع بالفعل. أصبحنا نعيش في عصر ونكرر إنتاج عصر، مضى. نعيش بأجسادنا في عصر وأرواحنا ما زالت تعيش في عصر ولّى. طغى إنتاج الماضي على الحاضر فلم يعد له إنتاج. فقد استسهل استرجاع الماضي والاحتماء به على أن ينتج هو إنتاجه الخاص. "هم رجال ونحن رجال نتعلم منهم ولا نقتدي بهم". خنق استرجاع إنتاج الماضي إبداع الحاضر وأضعف ثقته بالنفس وقدرته على مجاراة القدماء ومنافستهم بل وتجاوزهم، فتحول الحاضر إلى مجرد ناقل من القدماء، مكرراً لإبداعاتهم مخفيّاً وراءه عجزه عن مجاراتهم. وفضل فريق آخر النقل عن الوافد الغربي يجد فيه ضالته ويقلد نموذجه للتحديث الذي أثبت نجاحه في الغرب ولا يستحيل نجاحه في مناطق أخرى منذ الثورة الكمالية في تركيا. فنشأ تيار التغريب أو الانبهار بالغرب كرد فعل على الفريق الماضوي والانبهار بالقدماء. وازدوجت الثقافة ومصادر المعرفة والتشريع. بل نشأ صراع على السلطة الاجتماعية والسياسة من أجل نقل الحاضر إما إلى الماضي كما يريد الماضويون وإما إلى المستقبل كما يريد العلمانيون. وكلاهما قفزٌ، قفز إلى الماضي والسير ضد الزمن أو القفز إلى المستقبل دون إعداد الحاضر والمرور بالمراحل المتوسطة. وفي كلتا الحالتين يغيب الإعداد الواعي التدريجي للمستقبل، والتعرف على مساراته الممكنة، تجزئة إلى كيانات طائفية عرقية كما نشاهد في العراق والسودان والصومال واليمن أم وحدة وحماية للأجزاء بدخولها في كل واحد؟ ابتلاع الأجزاء في دوائر خارجة عن دائرتها تسمى العولمة أو مجموعة الثماني أو "الاتحاد من أجل المتوسط" أو "الشرق الأوسط الجديد" أو حماية الأجزاء في تجمعات إقليمية فرعية مثل اتحاد المغرب العربي أو وحدة مصر والشام أو وحدة وادي النيل... الخ. لن يفك العرب عن أنفسهم حصار الزمن إلا إذا أحسوا به وبتغيره، وأن لكل عصر رجاله وقدرتهم على الإبداع. وطبعاً لا يفيد الاستمرار في البكاء على ضياع الماضي الذي ولّى، وهو ما زال حاضراً أكثر من الحاضر، ولا على المستقبل المظلم المرهون بسيطرة الآخرين عليه. فالماضي تجربة واحدة في عصر واحد قامت بها عدة أجيال ولّت. والحاضر مفتوح أمام أجيال جديدة بدلا من ثقل الماضي وغموض الرؤية للمستقبل. والمستقبل ليس في الهجرة خارج الأوطان، هجرة شرعية أو غير شرعية، أو في استيراد فكر وافد أبدعه آخرون في فترات زمانية سابقة لفترتنا التي نمر بها، بل هو في القدرة على رؤية عدة سيناريوهات بحيث يتحقق أفضلها طبقاً لتجارب الماضي والإحساس بالحاضر وطاقاته ومكوناته واستعداداته لفك الأسر ورفع جدار الزمن.