عندما شرع "ستيفان هالبر"، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كامبريدج، في تأليف كتابه: "إجماع بكين: كيف سيهيمن النموذج الشمولي الصيني على القرن الحادي والعشرين؟"، -الذي نقترح هنا قراءة له- كان هدفه الرئيسي هو دراسة تأثير طبقة المستهلكين المتزايدة في الصين على استمرار الحزب الشيوعي في السيطرة على مقاليد الأمور، ولكن سرعان ما تغير مجرى البحث بعدما أدرك صعوبة تقويض السلطة القائمة في الصين. بل لقد خلص إلى أنها تشكل تهديداً حقيقيّاً للهيمنة الغربية وبخاصة الأميركية في مجال الأفكار والقيم، تلك الهيمنة التي تتعدى الجوانب الاقتصادية والعسكرية إلى الانتشار الدولي واكتساب موطئ قدم لها في العالم لم تكن الصين تحلم به من قبل. وما لم تواجه الولايات المتحدة التحدي الاستراتيجي الذي تمثله الصين "ستجد أميركا نفسها وسط عالم لا يكن أي تعاطف للقيم والمبادئ الديمقراطية التي صاحبت التقدم الغربي طوال القرون الثلاثة الماضية". والمشكلة حسب الكاتب لا تكمن في المنافسة الصينية للولايات المتحدة على الصعيد العسكري لأن هذه الأخيرة ستحافظ على تفوقها خلال السنوات القادمة، كما لا تكمن في احتمال اندلاع حرب تجارية بين البلدين يستبعدها المؤلف أصلاً، بل تكمن المشكلة في الاختراق الواضح الذي تحققه الصين في العالم وترويجها عن قصد، أو غير قصد، لنموذج مضاد للأفكار الغربية؛ فالصين حسب الكاتب لا تتردد في تزويد أكثر الأنظمة شمولية بالأسلحة والمساعدات، وهي تمثل بالنسبة للبلدان الفقيرة بديلا عن المساعدات الغربية التي تأتي دائماً مشروطة بالانفتاح السياسي والإصلاح الاقتصادي الذي قد يعني في النهاية تبني السوق الحرة. ويرى الكاتب أن الولايات المتحدة ساهمت بقسط وافر في تبلور هذا الواقع الجديد على الساحة الدولية بسبب مواقفها الأحادية بعد انتهاء الحرب الباردة وشعورها بالنصر و"نهاية التاريخ" كما روج لذلك البعض، بحيث لم يعد لديها الوقت ولا الرغبة للإصغاء للدول الصغيرة والانتباه لانشغالاتها، وسمحت لنفسها بتوجيه شعوب العالم، وقد استطاعت الولايات المتحدة التغلغل داخل المؤسسات الدولية المسؤولة عن تقديم المساعدات والقروض مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يشترطان قبل حصول الدول الفقيرة على القروض مجموعة من الإجراءات باتت تعرف باسم "إجماع واشنطن" متمثلة في تقليص عجز الموازنة حتى في أوقات الأزمة الاقتصادية التي تستدعي الإنفاق، وخصخصة الشركات والمؤسسات التابعة للدولة، ثم فتح الأسواق المحلية للمنافسة الأجنبية، بالإضافة إلى تحرير النظام المالي وربط العملة بالأسواق الخارجية. ولكن هذا الإجماع الذي قام عليه النموذج الاقتصادي الغربي يواجه صعوبات يطرحها نموذج آخر وإجماع جديد ينذر بالحلول مكانه بقيادة الصين، فقد أثبت النموذج الاقتصادي الغربي تعثره في العديد من الحالات وأوشك على التسبب في إفلاس دول عديدة تبنته تحت الضغط الغربي. وجاءت الأزمة الاقتصادية الأخيرة لتسدد ضربة موجعة للنموذج الليبرالي بعدما انتهكت أميركا نفسها توصيات البنك الدولي وتعاملت معها بطريقة يعتبرها المنتقدون قد لا تخلو من نفاق، حيث سارعت إلى إنقاذ البنوك المتعثرة وضخت أموالا ضخمة في الصناعات المتضررة فيما يشبه التأميم كما لجأت إلى خفض سعر الفائدة إلى الصفر. أما الصين، يقول الكاتب، فقد تمردت منذ البداية على النظام الليبرالي الذي تبنته اقتصاديّاً وابتعدت عنه سياسياً، وحتى في اعتماده نأت بنفسها عن التدخل في شؤون الدول ولم تتعامل بمعايير مزدوجة لأنها منذ البداية كانت تستثمر في الدول الفقيرة وتقدم لها العون دون السعي لإقناعها بفكرة معينة، أو أيديولوجية بذاتها، وحتى الدول التي وجدت نفسها تتعامل مع الصين لم يكلفها الانفتاح على بكين الثمن السياسي الذي عادة ما يطلبه الغرب، فعلى سبيل المثال كل ما تطلبه الصين من الدول التي تساعدها هو عدم الاعتراف باستقلال تايوان، وإعلان تحفظها بين الفينة والأخرى على تصريحات الدالاي لاما، وبالطبع غض النظر عن مسألة حقوق الإنسان، وفي المقابل تغدق بكين استثماراتها وتستمر شركاتها في تطوير البنية التحتية ما دامت تحقق الأرباح وتحصل على المال. بل إن الكاتب يضيف إلى ذلك أن الصين كانت أفضل في الاقتراب من الشعوب عندما بنت المدارس وملاعب كرة القدم في إفريقيا حيث الشعوب هناك مهووسة بالكرة. والمفارقة في الحالة الصينية أنه في الوقت الذي كان فيه الغرب ينتظر من انفتاحها الاقتصادي أن يؤدي في النهاية إلى انفتاح ديمقراطي، وأن تقود الليبرالية الاقتصادية إلى ليبرالية سياسية، بات النجاح الاقتصادي للصين دليلاً على إمكانية الجمع بين الشمولية من جهة والازدهار من جهة أخرى، وهو النموذج الذي أصبح جاذباً للعديد من الدول النامية التي تسعى إلى استنساخ مثل هذا التوازن الصيني. بيد أن الاختراق الصيني للعالم، في نظر الكاتب، لا تغذيه رغبة من الصين للنيل من مصداقية القيم الديمقراطية، أو الترويج لنموذجها الخاص الذي يجمع بين الشمولية والاقتصاد الحر، بقدر ما يرجع إلى هاجس البقاء الذي يؤرق الحزب الشيوعي ورغبته في استمرار النمو الاقتصادي لأنه يدرك أن الحفاظ على الاستقرار الداخلي مرهون بتوفير الوظائف والسلع الاستهلاكية التي يضمنها اقتصاد قوي، وهو نفسه ما يدفع الصين إلى الانفتاح على أسواق خارجية بحثاً عن المواد الخام في إفريقيا وغيرها وذلك حفاظاً على معادلة الشمولية مقابل الازدهار. زهير الكساب ------- الكتاب: إجماع بكين: كيف سيهيمن النموذج الشمولي الصيني على القرن الحادي والعشرين؟ المؤلف:ستيفان هالبر الناشر: باسيك بوكس تاريخ النشر: 2010