يبرز التحول من السلطوية إلى الديمقراطية في العالم العربي باعتباره أبرز الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها المشروع النهضوي العربي الذي أطلق وثيقته الأساسية "مركز دراسات الوحدة العربية" في فبراير الماضي بمدينة بيروت. ولعل هذا الهدف من أصعب الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها المشروع النهضوي العربي. ويرد ذلك إلى أن ميراث الشمولية والسلطوية قديم في الوطن العربي. وعلى رغم التحولات الكبرى التي لحقت ببعض النظم السياسية العربية التقليدية في الخمسينيات، ونعني سقوط بعض النظم الملكية كالنظام المصري والنظام الليبي، وقد صعدت على أنقاضها نظم سياسية "راديكالية" مثل ثورة يوليو 1952 في مصر، وانقلابات حزب البعث في سوريا والعراق التي رفعت شعارات ثورية وزعمت أنها ستحقق الحرية السياسية الغائبة. إلا أن الممارسة أثبتت أن السلطوية ظلت راسخة وإن اتخذت أشكالاً مستحدثة أهمها صيغة الحزب الإيديولوجي الأوحد، الذي اتخذ في مصر اسم "الاتحاد الاشتراكي العربي" وفي سوريا والعراق اسم "حزب البعث". نحن في الواقع في الوطن العربي الآن - على رغم شعارات العولمة المدوية عن الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان- ما زلنا أمام معضلة سيادة السلطوية، والعجز عن تفكيك بنيتها الجامدة، التي أصبحت أخطر معوقات التقدم الحضاري العربي. ونستطيع التأكيد على أننا حتى لو حللنا مشكلة السلطوية وانتقلنا -ولو بخطوات متدرجة- إلى الديمقراطية، فإن ذلك لن يحلّ معضلة التخلف العربي. وذلك لأننا في أشد الحاجة إلى تخطيط حضاري متكامل. ويمكن القول إنه ليست هناك نظرية صورية متكاملة للديمقراطية الغربية يمكن أن تطبق في أي مكان. وهذا لا ينفي أن هناك مثالاً ديمقراطيّاً ينهض على مجموعة من القيم، أهمها سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية تكوين الأحزاب السياسية في إطار التعددية، والانتخابات الدورية كأساس للمشاركة الجماهيرية في اختيار ممثلي الشعب، وتداول السلطة. كل ذلك مع الوضع في الاعتبار أن هذا المثال الديمقراطي بمكوناته المتعددة لابد أن يختلف تطبيقه من قُطر إلى آخر، نظراً للتاريخ الاجتماعي الفريد لكل قُطر، والثقافة السياسية السائدة، وتركيب الطبقات الاجتماعية، واتجاهات النخبة السياسية، وطبيعة القوى والحركات الاجتماعية. وفي تقديرنا أن مكونات المثال الديمقراطي التي أشرنا إليها تصلح تماماً مقياساً لتقييم الوضع الديمقراطي العربي. وتستحق مفردات المثال الديمقراطي التي أشرنا إليها من قبل أن نقف أمامها قليلاً، لكي يتبين لنا المأزق الراهن للقوى والحركات الاجتماعية العربية. ولنبدأ بأولى هذه المفردات وهي سيادة القانون. وتطبيق مبدأ سيادة القانون يفترض ابتداء أننا بصدد دولة قانونية. ونحن نعرف أن الفقه الدستوري يفرق بين نوعين من الدول، دول قانونية ودول بوليسية. ففي الدول القانونية لابد من وجود دستور يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، ولابد من وجود مدونات قانونية منشورة وصادرة بشكل قانوني عن البرلمانات، مثل مدونة القانون المدني والقانون الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية وغيرها. وفي الدولة القانونية فقط يمكن تطبيق مبدأ سيادة القانون، الذي يطبق على الجميع بغير تمييز. كما أن المواطن لا يحاكم إلا أمام قاضيه الطبيعي، ولا يمثل أمام محاكم استثنائية أيّاً كانت، كما أن له حقوقاً وضمانات قانونية، تكفل عدالة المحاكمة. والمشكلة الحقيقية أن عديداً من الدول العربية حتى التي يوجد فيها دستور وقوانين، ليست في الواقع سوى دول بوليسية بحكم إهدار الدستور في الممارسة، ومخالفة القوانين التي تنص على الضمانات للمتهمين، وإنشاء محاكم استثنائية، وتطبيق قوانين عرفية تجمد العمل بالقوانين العادية. وهذه الدول العربية -كما رأينا في العقد الأخير- تمانع ممانعة شديدة في التحول من نمط الدولة البوليسية إلى نمط دولة القانون، وذلك باصطناع حجج شتى، أهمها شيوع ظاهرة الإرهاب من ناحية، التي تقتضي تطبيق القوانين الاستثنائية، وضرورة مواجهة خصوم النظام السياسي في الداخل باتباع تدابير مشددة. ولعل هذا التحول الضروري الذي نتحدث عنه يمثل الخطوة الأولى الحاسمة في مجال تفكيك البنية السلطوية لبعض النظم السياسية العربية المعاصرة. وهي خطوة ضرورية ولكنها ليست كافية، فأمامنا لتطبيق المثال الديمقراطي قائمة طويلة بالمطالب، من بين أهمها احترام حقوق الإنسان، وضمان حرية التفكير والتعبير، ودورية الانتخابات السياسية بمختلف أشكالها، وقبل ذلك كله الاعتراف بمبدأ أساسي من مبادئ الديمقراطية وهو ضرورة تداول السلطة، لتجديد دماء النظام السياسي برؤى جديدة بصورة دورية منتظمة. وفي ضوء كل المطالب التي تحتاج إلى مناقشات تفصيلية، ندرك لماذا نلاحظ حضور الدولة وغياب القوى والحركات الاجتماعية العربية! ولا نريد أن نسترسل في مناقشة عديد من المتطلبات لتحقيق المثال الديمقراطي المرجو في المشروع النهضوي العربي وخصوصاً في مجال إجراءات الديمقراطية وقيمها، وهي قضايا ناقشناها من قبل بالتفصيل في كتب سابقة لنا. وذلك لأننا نريد أن نتطرق إلى موضوع تندر فيه الكتابات العربية وهو موضوع أهمية التخطيط الحضاري الشامل للنهضة العربية، بحيث يصبح تحقيق الديمقراطية مجرد مكون من مكوناتها. والتخطيط الحضاري العربي يحتاج أولاً إلى معرفة وثيقة بالتطورات العالمية وخصوصاً في أبعادها الثقافية. وذلك لأن المسافة -بحكم العولمة- ضاقت جداً بين المحلي والعالمي. وهذه التطورات العالمية أدت إلى بروز إشكاليات معرفية جديدة ومشكلات واقعية عالمية. ولو أردنا الإيجاز الشديد لقلنا إن الإشكاليات المعرفية الجديدة تتمثل في التساؤل عن طبيعة المستقبل، وضرورة صياغة عقد طبيعي جديد يحدد مستقبل النوع الإنساني، وكذلك عقد ثقافي جديد يحدد الآفاق الجديدة للثقافة التعددية والتعليم. ولابد في هذا المجال من اتخاذ موقف من الصراع بين صدام الحضارات وحوار الثقافات، وكل ذلك لا ينفي أهمية صياغة عقد اجتماعي جديد أيضاً يحدد الحقوق والواجبات بين الدولة والمواطنين. أما المشكلات الواقعية فيقف في صدارتها هدف كيف يمكن تحقيق التنمية المستدامة لكل الناس، وكيف يمكن تدعيم البعد الأخلاقي للأسواق لسد الفجوة بين الغنى والفقر، والحد من جشع الرأسمالية المتوحشة. ومن الواضح أن أية مشكلة معرفية أو واقعية تحتاج إلى مناقشات مستفيضة.